* ( ذكر السبب في خروج أبي السرايا )
*
كتب إلي علي بن أبي قربة العجلي ، قال : حدثنا يحيى بن عبد
الرحمن الكاتب ، قال حدثني نصر بن مزاحم المنقري بما شاهدمن ذلك ، قال وحدث بما
غاب عنه عمن حضره فحدثني به ، ويحيى بن عبد الرحمن أيضا بنتف من خبره عن غير
نصر بن مزاحم ، واخبرني أحمد بن عبيدالله بن عمار ، عن علي بن
محمد بن سليمان النوفلي بأخباره . فربما ذكرت الشئ اليسير منها والمعنى الذي
يحتاج إليه ، لان علي بن محمد كان يقول : بالامامة فيحمله التعصب لمذهبه على
الحيف فيما يرويه
ونسبة من روى خبره من اهل هذا المذهب إلى قبيح الافعال ،
واكثر حكاياته في ذلك بل سائرها عن أبيه موقوفا عليه لا يتجاوزه ، وابوه حينئذ
مقيم بالبصرة لا يعلم بشئ من اخبار القوم . إلا ما يسمعه من السنة العامة على
سبيل الاراجيف
والاباطيل ، فيسطره في كتابه عن غير علم ، طلبا منه لما شان
القوم ، وقدح فيهم . فاعتمدت على رواية من كان بعيدا عن فعله في هذا ، وهي
رواية نصر بن مزاحم ، إذا كان ثبتا في الحديث والنقل ، ويظهر انه ممن سمع خبر
ابي السرايا عنه .
قالوا : كان سبب خروج محمد بن إبراهيم * وهو محمد بن إبراهيم
بن إسماعيل ، وهو ابن طباطبا ، بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي
طالب * وابي السرايا أن نصر بن شبيب كان قدم حاجا وكان متشيعا حسن المذهب ،
وكان ينزل
الجزيرة ، فلما ورد المدينة سأل عن بقايا اهل البيت ومن له
ذكر منهم ، فذكر له : علي بن عبيدالله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب ، وعبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، ومحمد بن إبراهيم بن
إسماعيل بن
إبراهيم ابن الحسن بن الحسن . فأما علي بن عبيدالله فانه كان
مشغولا بالعبادة لا يصل إليه احد ولا يأذن له ،
واما عبد الله بن موسى فكان مطلوبا خائفا لا يلقاه احد . وأما
محمد بن إبراهيم فانه كان يقارب الناس ويكلمهم في هذا الشأن ، فأتاه نصر بن
شبيب فدخل إليه وذاكره مقتل اهل بيته وغصب الناس إياهم حقوقهم وقال حتى متى
توطئون بالخسف وتهتضم
شيعتكم وينزى على حقكم ؟ واكثر من القول في هذا المعنى إلى ان
اجابه محمد بن إبراهيم ، وواعده لقاءه بالجزيرة . وانصرف الحاج ، ثم خرج محمد
بن إبراهيم إلى الجزيرة ، ومعه نفر من اصحابه وشيعته ، حتى قدم على نصر بن شبيب
للموعد ، فجمع إليه نصر اهله وعشيرته وعرض ذلك عليهم ، فأجابه
بعضهم وامتنع عليه بعض ، وكثر القول فيهم والاختلاف حتى تواثبوا وتضاربوا
بالنعال والعصى ، وانصرفوا عن ذلك . ثم خلا بنصر بعض بني عمه واهله فقال له :
ماذا صنعت بنفسك واهلك ؟ افتراك إذا فعلت هذا الامر وتأبدت
السلطان يدعك وما تريد ؟ لا والله بل يصرف همه اليك وكيده ، فان ظفر بك فلا
بقاء بعدها وإن ظفر صاحبك وكان عدلا كنت عنده بمنزلة رجل من افناء اصحابه ، وإن
كان غير ذلك
فما حاجتك إلى تعريض نفسك واهلك واهل بيتك لما لا قوام لهم به
؟ واخرى إن جميع هذا البلد اعداء لآل أبي طالب ، فان اجابوك الآن طائعين ، فروا
عنك غدا منهزمين إذا احتجت إلى نصرهم ، على انك إلى خلافهم اقرب منك إلى
إجابتهم ، ثم تمثل بقوله :
وابذل لابن العم نصحي ورأفتي * إذا
كان لي بالخير في الناس مكرما
فان راغ عن نصحي وخالف مذهبي * قلبت له ظهر المجن ليندما
فثنى نصرا عن رأيه ، وفتر نيته ، فصار إلى محمد بن إبراهيم
معتذرا إليه بما كان من خلاف الناس عليه ، ورغبتهم عن اهل البيت ، وانه لو ظن
ذلك بهم لم يعده نصرهم ، وأومأ إلى ان يحمل إليه مالا ويقويه بخمسة آلاف دينار
، فانصرف محمد عنه مغضبا ، وأنشأ يقول ، والشعر له :
سنغنى بحمد الله عنك بعصبة * يهشون
للداعي إلى واضح الحق
طلبت لك الحسنى فقصرت دونها * فأصبحت
مذموما وزلت عن الصدق
جروا فلهم سبق وصرت مقصرا * ذميما بما قصرت عن غاية السبق
وما كل شئ سابق أو مقصر * يؤول به التقصير إلا إلى العرق
ثم مضى محمد بن إبراهيم راجعا إلى الحجاز ، فلقي في طريقه ابا السرايا السري بن
منصور احد بني ربيعة بن ذهل بن شيبان ، وكان قد خالف السلطان ونابذه ، وعاث في
نواحي السواد ، ثم صار إلى تلك الناحية فأقام بها خوفا على نفسه ،
ومعه غلمان له فيهم : أبو الشوك ، وسيار ، وأبو الهرماس ،
غلمانه . وكان علوي الرأي ذا مذهب في التشيع ، فدعاه إلى نفسه فأجابه وسر بذلك
وقال له : انحدر إلى الفرات حتى اوافي على ظهر الكوفة ، وموعدك الكوفة . ففعل
ذلك ووافى
محمد بن إبراهيم الكوفة يسأل عن اخبار الناس ويتحسسها ويتأهب
لامره ويدعو من يثق به إلى ما يريد ، حتى اجتمع له بشر كثير ، وهم في ذلك
ينتظرون أبا السرايا وموافاته ، فبينا هو في بعض الايام يمشي في بعض طريق
الكوفة إذ نظر إلى
عجوز تتبع احمال الرطب ، فتلقط ما يسقط منها فتجمعه في كساء
عليها رث ، فسألها عما تصنع بذلك . فقالت : إني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤنتي
ولي بنات لا يعدن على انفسهن بشئ ، فأنا اتتبع هذا من الطريق واتقوته أنا وولدي
. فبكى بكاء شديدا،
وقال : انت والله واشباهك تخرجوني غدا حتى يسفك دمي . ونفذت
بصيرته في الخروج ، واقبل أبو السرايا لموعده على طريق البر حتى ورد عين التمر
في فوارس معه ، جريدة لا راجل فيهم واخذ على النهرين حتى ورد إلى نينوى فجاء
إلى
قبر الحسين . قال نصر بن مزاحم ! فحدثني رجل من اهل المدائن ،
قال : إنى لعند قبر الحسين في تلك الليلة ، وكانت ليلة ذات ريح ورعد ومطر ، إذا
بفرسان قد اقبلوا
فترجلوا إلى القبر فسلموا ، واطال رجل منهم الزيارة ثم جعل
يتمثل ابيات منصور ابن الزبرقان النمري :
نفسي فداء الحسين يوم عدا * إلى
المنايا عدوا ولا قافل
ذاك يوم أنحى بشفرته * على سنام الاء سلام والكاهل
كأنما أنت تعجبين ألا * ينزل بالقوم نقمة العاجل
لا يعجل الله إن عجلت وما * ربك عما ترين بالغافل
مظلومة والنبي والدها * تدير ارجاء مقلة جافل
ألا مساعير يغضبون لها * بسلة البيض والقنا الذابل
قال : ثم اقبل علي فقال : ممن الرجل ؟ فقلت : رجل من الدهاقين
من أهل المدائن . فقال سبحان الله ، يحن الولي إلى وليه كما تحن الناقة إلى
حوارها ، يا شيخ إن هذا موقف يكثر لك عند الله شكره ويعظم اجره . قال : ثم وثب
فقال : من كان هاهنا
من الزيدية فليقم إلي ، فوثبت إليه جماعات من الناس ، فدنوا
منه فخطبهم خطبة طويلة ذكر فيها اهل البيت وفضلهم وما خصوا به ، وذكر فعل الامة
بهم وظلمهم لهم ، وذكر الحسين بن علي فقال : أيها الناس، هبكم لم تحضروا الحسين
فتنصروه
، فما يقعدكم عمن أدركتموه ولحقتموه ؟ وهو غدا خارج طالب
بثأره وحقه ، وتراث آبائه ، وإقامة دين الله ، وما يمنعكم من نصرته ومؤازرته ؟
إنني خارج من وجهي هذا إلى الكوفة للقيام بأمر الله ، والذب عن دينه ، والنصر
لاهل بيته ، فمن كان
له نية في ذلك فليلحق بي ثم مضى من فوره عائدا إلى الكوفة
ومعه اصحابه . قال : وخرج محمد بن إبراهيم في اليوم الذي واعد فيه ابا السرايا
للاجتماع بالكوفة ، واظهر نفسه وبرز إلى ظهر الكوفة ، ومعه علي بن عبيدالله بن
الحسين ابن علي بن
الحسين ، واهل الكوفة منبثون مثل الجراد إلا انهم على غير
نظام وغير قوة ، ولا سلاح إلا العصى والسكاكين والآجر ، فلم يزل محمد بن
إبراهيم ومن
معه ينتظرون ابا السرايا ويتوقعونه فلا يرون له اثرا حتي
أيسوا منه ، وشتمه بعضهم ولاموا محمد بن إبراهيم على الاستعانة به ، واغتنم
محمد بن إبراهيم بتأخره ، فبينماهم كذلك إذ طلع عليهم من نحو الجرف علمان
اصفران وخيل ، فتنادى الناس
بالبشارة فكبروا ونظروا ، فإذا هو أبو السرايا ومن معه ، فلما
أبصر محمد بن إبراهيم ترجل واقبل إليه فانكب عليه واعتنقه محمد ، ثم قال له :
يابن رسول الله ، ما يقيمك هاهنا ؟ ادخل البلد فما يمنعك منه احد ، فدخل هو
وخطب الناس ، ودعاهم
إلى البيعة إلى الرضا من آل محمد والدعاء إلى كتاب الله وسنة
نبيه صلى الله عليه وآله، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والسيرة بحكم
الكتاب . فبايعه جميع الناس حتى تكابسوا وازدحموا عليه، وذلك في موضع بالكوفة
يعرف بقصر الضرتين .
فحدثني احمد بن محمد بن سعيد الهمداني ، قال :
حدثنا محمد بن منصور بن يزيد أبو جعفر المرادي ، قال : حدثنا الحسن بن عبد
الواحد الكوفي ، قال : حدثنا الحسن بن الحسين عن سعيد بن خيثم بن معمر قال :
سمعت زيد بن علي يقول : يبايع الناس
لرجل منا عند قصر الضرتين ، سنة تسع وتسعين ومائة ، في عشر من
جمادي الاولى ، يباهي الله به الملائكة . قال الحسن بن الحسين : فحدثت به محمد
بن إبراهيم فبكى .
حدثني احمد بن محمد بن سعيد ، قال : حدثنا محمد
بن منصور ، قال : حدثنا علي بن الحسين ، قال : حدثنا عمر بن شبة المكي ، عن
جابر الجعفي ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، قال : يخطب على اعوادكم يا اهل الكوفة
سنة تسع وتسعين ومائة في جمادي الاولى رجل منا اهل البيت ، يباهي الله به
الملائكة .
حدثني محمد بن الحسين الاشناني ، قال : حدثنا
احمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا الحسن بن الحسين ، عن عمر بن شبة المكي
بنحوه .
رجع الحديث إلى خبر أبي السرايا . قال : ووجه
محمد بن إبراهيم إلى الفضل بن العباس بن عيسى بن موسى رسولا
يدعوه إلى بيعته ويستعين به في سلاح وقوة ، فوجد العباس قد
خرج عن البلد وخندق حول داره ، واقام مواليه في السلاح للحرب ، فأخبر الرسول
محمدا بذلك فأنفذ محمد ابا السرايا إليهم ، وأمره أن يدعوهم ولا يبدأهم بقتال ،
فلما صار إليهم تبعه
اهل الكوفة كالجراد المنتشر ، فدعاهم فلم يصغوا إلى قوله ولم
يجيبوا دعوته ، ورموه بالنشاب من خلف السور ، فقتل رجل من اصحابه أو جرح ، فوجه
به إلى محمد بن إبراهيم ، فأمره بقتالهم فقاتلهم . وكان على السور خادم اسود
واقف بين
شرفتين يرمي لا يسقط له سهم ، فأمر أبو السرايا غلامه أن
يرميه ، فرماه بسهم فأثبته بين عينيه، وسقط الخادم على ام رأسه إلى اسفل فمات
وفر موالي الفضل بن العباس فلم يبق منهم احد ، وفتح الباب فدخل اصحاب أبي
السرايا ينتهبونها ويخرجون
حر المتاع منها ، فلما راى ذلك أبو السرايا حظره ومنع احدا من
الخروج أو يأخذ ما معه ويفتشه ، فأمسك الناس عن النهب . قال : فسمعت أعرابيا
يرتجز ومعه تخت فيه ثياب وهو يقول :
ما كان إلا ريث زجر الزاجره * حتى
انتضيناها سيوفا باتره
حتى علونا في القصور القاهرة * ثم انقلبنا بالثياب الفاخره
قال : ومضى الفضل بن العباس فدخل على الحسن بن سهل فشكا إليه ما انتهك منه
فوعده النصر والغرم والخلف ، ثم دعا بزهير بن المسيب فضم إليه الرجال وامده
بالاموال وندبه إلى المسير نحو أبي السرايا وان يودعه من وقته ويمضي لوجهه
فيه ولا ينزل إلا بالكوفة ، وكان محمد بن إبراهيم عليلا علنه
التي مات فيها . وكان الحسن بن سهل . لانتحاله النجوم ونظره فيما ، ينظر في نجم
محمد فيراه محترقا ، فيبادر في طلبه ويحرص على ترويحه ، ويشغله ذلك عن النظر في
امر عسكره .
فسار زهير بن المسيب حتى ورد قصر ابن هبيرة فأقام به ، ووجه
ابنه ازهر بن زهير على مقدمته ، فنزل سوق اسد . وسار أبو السرايا من الكوفة وقت
العصر فأغذ السير حتى اتى معسكر ازهر بن زهير بسوق اسد ، وهم غارون فيه وبيته ،
فطحن العسكر واكثر القتل فيه ، وغنم دوابهم واسلحتهم ، وانقطع
الباقون في الليل منهزمين حتى وافت زهيرا بالقصر فتغيظ من ذلك . ورجع أبو
السرايا إلى الكوفة ، وزحف زهير حتى نزل ووافت خريطة من الحسن بن سهل ، يأمره
ألا ينزل إلا
بالكوفة ، فمضى حتى نزل عند القنطرة . ونادى أبو السرايا في
الناس بالخروج ، فخرجوا حتى صادفوا زهيرا على قنطرة الكوفة في عشية صردة باردة
، فهم يوقدون النار يستدفئون بها ، ويذكرون الله ويقرأون القرآن ، وابو السرايا
يسكن منهم
ويحثهم . واقبل اهل بغداد يصيحون يا اهل الكوفة : زينوا
نساءكم واخواتكم وبناتكم للفجور ، والله لنفعلن بهم كذا وكذا . ولا يكنون .
وابو السرايا يقول لهم : اذكروا الله وتوبوا إليه ، واستغفروه واستعينوه ، فلم
يزل الناس في تلك الليلة يتحارسون
طول ليلتهم ، حتى إذا اصبح نهد إليهم فوقف في عسكره ، وقد
عشيت ابصار الناس من الدروع والبيض والجواشن وهم على تعبئة حسنة ، واصوات
الطبول والبوقات مثل الرعد العاصف ، وابو السرايا يقول : يا أهل الكوفة صححوا
نياتكم ،
واخلصوا لله ضمائركم ، واستنصروه على عدوكم وابرأوا إليه من
حولكم وقوتكم ، واقرأوا القرآن ، ومن كان يروي الشعر فلينشد شعر عنترة العبسي :
قال : ومر بنا الحسن بن الهذيل يعترض الناس ناحية ناحية ويقول : يا معشر
الزيدية ، هذا
موقف تستزل فيه الاقدام ، وتزايل فيه الافعال . والسعيد من
حاط دينه ، والرشيد من وفى لله بعهده ، وحفظ محمدا في عترته . ألا ان الآجال
موقوته ، والايام معدودة من هرب بنفسه من الموت كان الموت محيطا به ، ثم قال :
من لم يمت عبطة يمت هرما * الموت كأس
والمرء ذائقها .
قال أبو الفرج الاصبهاني : الحسن بن الهذيل هذا ، صاحب الحسين المقتول بفخ ،
وقد روى عنه الحديث .
قال : فطلع رجل من اهل بغداد مستلئما شاكي السلاح فجعل يشتم
اهل الكوفه ويقول : لنفجرن بنسائكم ولنفعلن بكم ولنصنعن ، وانتدب إليه رجل من
أهل الوازار - قرية بباب الكوفة - عليه إزار أحمر وفي يده سكين ، فألقى نفسه في
الفرات وسبح
ساعة حتى صار إليه ، فدنا منه فأدخل يده في جيب درعه وجذبه
إليه فصرعه وضرب بالسكين حلقه فقتله ، وجر برجله يطفو مرة ويغوص مرة اخرى حتى
أخرجه إلى الكوفة فكبر الناس وارتفعت أصواتهم بحمد الله والثناء عليه والدعاء .
وخرج رجل من ولد الاشعث بن قيس فعبر إلى البغداديين ودعا
للبراز فبرز إليه رجل فقتله ، وبرز إليه آخر فقتله ، وبرز إليه ثالث فقتله ،
حتى قتل نفرا . وأقبل أبو السرايا فلما رآه شتمه وقال : من امرك بهذا ؟ ارجع
فرجع فمسح سيفه بالتراب
ورده في غمده وقنع فرسه ومضى نحو الكوفة ، فلم يشهد حربا
بعدها معهم ووقف أبو السرايا على القنطرة طويلا ، وخرج رجل من أهل بغداد فجعل
يشتمه بالزنا لا يكنى . وابو السرايا واقف لا يتحرك ، ثم تغافل ساعة حتى هم بأن
ينصرف ، ثم
حمل عليه فقتله وحمل على عسكرهم حتى خرج من خلفهم ، ثم حمل
عليهم من خلف العسكر حتى رجع من حيث جاء . ووقف في موقفه وهو ينفخ وينفض علق
الدم عن درعه . ثم دعا غلاما له فوجهه في نفر من اصحابه وامره ان يمضي
حتى يصير من وراء العسكر ، ثم يحمل عليهم لا يكذب ، فمضى
الغلام لوجهه مع من معه قاصدا لما أمره به ، ووقف أبو السرايا على القنطرة على
فرس له ادهم محذوف ، وقد اتكأ على رمحه فنام على ظهر الفرس حتى غط ، واهل
الكوفة
جزعون لما يرونه من عسكر زهير ، ويسمعونه من تهددهم ووعيدهم ،
وهم يضجون ويصيحون بالتكبير والتهليل حتى يسمع أبو السرايا فينتبه من نومه ،
فلم ينتبه حتى ظن أن الكمين الذي بعثه قد انتهى إلى حيث أمره فصاح بفرسه : قتال
، ثم قنعه حتى رضى بحفزه
ثم أومأ بيده نحو الكمين الذي بعثه ، وصاح بأهل الكوفة :
احملوا ، وحمل وتبعوه فلم يبق من أصحاب زهير أحد إلا التفت نحو الاء شارة .
وخالط أبو السرايا وغلامه سيار العسكر ، وتبعه اهل الكوفة وصاح بغلامه. ويلك
ياسيار ألا تراني ، فحمل
سيار على صاحب العلم فقتله وسقط العلم ، وانهزمت المسودة .
وتبعهم أبو السرايا واصحابه ونادى : من نزل عن فرسه فهو آمن فجعلوا يترجلون ،
واصحاب أبي السرايا يركبون ، وتبعوهم حتى جاوزوا شاهي ، ثم التفت زهير إلى أبي
السرايا
فقال : ويحك ، أتريد هزيمة اكثر من هذه ؟ إلى اين تتبعني ؟
فرجع وتركه . وغنم اهل الكوفة غنيمة لم يغنم أحد مثلها ، وصاروا إلى عسكر زهير
ابن المسيب ومطابخه قد اعدت واقيمت ، وكان قد حلف ألا يتغدى إلا في مسجد الكوفة
، فجعلوا
يأكلون ذلك الطعام ، وينتهبون الاسلحة والآلة ، وكانوا قد
أصابهم جوع وجهد شديد . ومضى زهير لوجهه حتى دخل بغداد مستترا ، وبلغ خبره
الحسن بن سهل فأمر باحضاره ، فلما رآه رماه بعمود حديد كان في يده فشتر إحدى
عينيه وقال لبعض
من كان بحضرته : اخرجه فاضرب عنقه ، فتشفعوا فيه ، فلم يزل
يكلم فيه حتى عفا عنه . ودخل أبو السرايا الكوفة ، ومعه خلق كثير من الاسارى ،
ورؤوس كثيرة على الرماح مرفوعة ، وفي صدور الخيل مشدودة ، ومن معه من اهل
الكوفة قد
ركبوا الخيل ولبسوا السلاح ، فهو في حالة واسعة ، وانفسهم بما
رزقوه من النصر قوية . واشتد غم الحسن بن سهل ومن بحضرته من العباسيين ، لما
جرى على عسكر زهير ، وطال اهتمامهم به ، فدعا الحسن بن سهل بعبدوس بن عبد الصمد
،
وضم إليه الف فارس وثلاثة آلاف راجل وازاح علته في الاء عطاء
، وقال : إنما أريد ان أنوه باسمك فانظر كيف تكون ، واوصاه بما احتاج إليه ،
وامره ألا يلبث . فخرج من بين يديه وهو يحلف ان يبيح الكوفة ، ويقتل مقاتلة
اهلها ويسبي
ذراريهم ، ثلاثا . ومضى لوجهه لا يلوي على شئ حتى صار إلى
الجامع ، وقد كان الحسن بن سهل تقدم إليه بذلك وأمره ألا يأخذ على الطريق الذي
انهزم فيه زهير ، لئلا يرى أصحابه بقايا قتلى عسكره ، فيجبنوا من ذلك . فأخذ
على الطريق
الجامع ، فلما وافاها وبلغ أبا السرايا خبره ، صلى الظهر
بالكوفة ، ثم جرد فرسان اصحابه ومن يثق به منهم واغذ السير بهم ، حتى إذا قرب
من الجامع فرق اصحابه ثلاث فرق وقال : شعاركم : يا فاطمي يا منصور " ، واخذ هو
في جانب السوق
واخذ سيار في سيره الجامع وقال لابي الهرماس : خذ بأصحابك على
القرية فلا يفتك أحد منهم ، ثم احملوا دفعة واحدة من جوانب عسكر عبدوس ، ففعلوا
ذلك فأوقعوا به وقتلوا منه مقتلة عظيمة ، وجعل الجند يتهافتون في الفرات طلبا
للنجاة ،
حتى غرق منهم خلق كثير . ولقى أبو السرايا عبدوسا في رحبة
الجامع ( 1 ) فكشف خوزته عن راسه وصاح : أنا أبو السرايا ، أنا أسد بني شيبان ،
ثم حمل عليه ، وولى عبدوس من بين يديه ، وتبعه أبو السرايا فضربه على رأسه ضربة
فلقت هامته وخر صريعا عن فرسه . وانتهب الناس من اصحاب أبي
السرايا واهل الجامع عسكر عبدوس ، وأصابوا منه غنيمة عظيمة ، وانصرفوا إلى
الكوفة بقوة واسلحة . ودخل أبو السرايا إلى محمد بن إبراهيم وهو عليل يجود
بنفسه فلامه
على تبييته العسكر ، وقال : أنا أبرأ إلى الله مما فعلت ، فما
كان لك أن تبيتهم ، ولا تقاتلهم حتى تدعوهم ، وما كان لك ان تأخذ من عسكرهم إلا
ما اجلبوا به علينا من السلاح .
|
هامش |
|
|
( 1 ) في الطبري 10 - 228 " فتوجه أبو
السرايا إلى عبدوس ، فواقعه بالجامع يوم الاحد لثلاث عشرة بقيت من رجب
، فقتله ، وأسر هارون بن محمد بن أبي خالد ، واستباح عسكره ، وكان
عبدوس فيما ذكر في أربعة آلاف فارس ، فلم يفلت منهم أحد كانوا بين قتيل
وأسير . وانتشر الطالبيون في البلاد . وضرب أبو السرايا الدراهم
بالكوفة ، ونقش عليها " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم
بنيان مرصوص " . ( * )
|
|
|
فقال أبو السرايا : يابن رسول الله ، كان هذا تدابير الحرب ،
ولست اعاود مثله .ثم رأى في وجه محمد الموت فقال له : يابن رسول الله ، كل حي
ميت ، وكل جديد بال ، فاعهد إلي عهدك . فقال : أوصيك بتقوى الله ، والمقام على
الذب عن دينك ،
ونصرة أهل بيت نبيك صلى الله عليه وآله ، فان أنفسهم موصولة
بنفسك ، وول الناس الخيرة فيمن يقوم مقامي من آل علي ، فان اختلفوا فالامر إلى
علي بن عبيدالله ، فاني قد بلوت طريقته ورضيت دينه . ثم اعتقل لسانه ، وهدأت
جوارحه ، فغمضه
أبو السرايا وسجاه ، وكتم موته ، فلما كان الليل اخرجه في نفر
من الزيدية إلى الغري فدفنه . فلما كان من الغد جمع الناس فخطبهم ، ونعى محمدا
إليهم وعزاهم عنه فارتفعت الاصوات بالبكاء إعظاما لوفاته . ثم قال : وقد اوصى
أبو عبد الله رحمة
الله عليه إلى شبيهه ومن اختاره ، وهو أبو الحسن علي بن
عبيدالله ، فان رضيتم به فهو الرضا ، وإلا فاحتاروا لانفسكم . فتواكلوا ونظر
بعضهم إلى بعض ، فلم ينطق احد منهم فوثب محمد بن محمد ابن زيد وهو غلام حدث
السن ، فقال : يا آل
علي : فات الهالك النجا ، وبقي الثاني بكرمه ، إن دين الله لا
ينصر بالفشل ، وليست يد هذا الرجل عندنا بسيئة ، وقد شفى الغليل ، وادرك الثأر
، ثم التفت إلى علي بن عبد الله فقال : ما تقول يا ابا الحسن رضي الله عنك ؟
فقد وصانا بك امدد يدك
نبايعك ، فحمد الله واثنى عليه ثم قال : إن أبا عبيد الله
رحمة الله عليه قد اختار فلم يعد الثقة في نفسه ، ولم يأل جهدا في حق الله الذي
قلده ، وما ارد وصيته تهاونا بأمره ، ولا ادع هذا نكولا عنه ، ولكن اتخوف ان
اشتغل به عن غيره مما هو احمد
وافضل عاقبة ، فامض رحمك الله لامرك واجمع شمل ابن عمك ، فقد
قلدناك الرياسة علينا ، وأنت الرضا عندنا ، الثقة في أنفسنا . ثم قال لابي
السرايا : ما ترى ؟ أرضيت به ؟ قال : رضائي في رضاك وقولي مع قولك ، فجذبوا يد
محمد بن محمد فبايعوه ، وفرق عماله .
فولى إسماعيل بن على بن إسماعيل بن جعفر خلافته على الكوفة .
وولى روح ابن الحجاج شرطته . وولى احمد بن السرى الانصاري رسائله . وولى عاصم
بن عامر القضاء . وولى نصر بن مزاحم السوق . وعقد لابراهيم بن موسى بن جعفر على
اليمن . وولى زيد بن موسى بن جعفر الاهواز . وولى العباس بن
محمد بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر ابن ابي طالب البصرة . وولى
الحسن بن الحسن الافطس مكة . وعقد لجعفر بن محمد بن زيد بن علي ، والحسين بن
إبراهيم بن
الحسن بن علي واسطا . فخرجوا إلى اعمالهم . فأما ابن الافطس
فلم يمنعه احد مما وجه له ، فأقام الحج تلك وهي سنة تسع وتسعين ومائة . وأما
إبراهيم بن موسى فأذعن له اهل اليمن بالطاعة ، بعد وقعة كانت بينهم يسيرة المدة
. واما صاحبا واسط
فان نصر البجلي صاحب واسط خرج اليهما فقاتلهما قتالا شديدا ،
فثبتا له ثم انهزم ودخلا واسطا وجبيا الخراج وتألفا الناس . وأما الجعفري صاحب
البصرة فانه خرج إليه علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين فاجتمعا ، ووافاهم
زيد بن موسى
بن جعفر ماضيا إلى الاهواز ، فاجتمعوا ، ولقيهم الحسن بن علي
المعروف بالمأمون - رجل من اهل باذغيس وكان على البصرة - فقاتلوه وهزموه وحووا
عسكره . وحرق زيد بن موسى دور بني العباس بالبصرة ، فلقب بذلك وسمى زيد النار .
وتتابعت الكتب وتواترت على محمد بن محمد بالفتوح من كل ناحية
. وكتب إليه اهل الشام والجزيرة انهم ينتظرون أن يوجه إليهم رسولا ليسمعوا له
ويطيعوا . وعظم امر أبي السرايا على الحسن بن سهل وبلغ منه ، فكتب إلى
طاهر بن الحسين أن يصير إليه لينفذه لقتاله ، فكتبت إليه رقعة
لا يدري من كتبها فيها ابيات وهي :
قناع الشك يكشفه اليقين * وافضل كيدك
الرأى الرصين
تثبت قبل ينفذ فيك أمر * يهيج لشره داء دفين
اتندب طاهر لقتال قوم * بنصرتهم وطاعتهم يدين
سيطلقها عليك معقلات * تصر ودونها حرب زبون
ويبعث كامنا في الصدر منه * ولا يخفى إذا ظهر المصون
فشأنك واليقين فقد أنارت * معالمه واظلمت الظنون
ودونك ما نريد بعزم رأى * تدبره ودع ما لا يكون
فرجع عن رأيه ذلك ، وكتب إلى هرثمة بن اعين يأمره بالقدوم عليه ، ودعا بالسندي
بن شاهك فسأله التعجيل وترك التلوم ، وكان ردء اله ، وكانت بين الحسن ابن سهل
وبين هرثمة شحناء ( 1 ) ، فخشى أن لا يجيبه إلى ما يريد ، ففعل ذلك السندي ومضى
إلى هرثمة فلحقه بحلوان ، فأوصل إليه الكتاب ، فلما قرأه تغيظ وقال :
|
هامش |
|
|
( 1 ) - في الطبري 10 / 228 " فلما رأى
الحسن بن سهل ان ابا السرايا ومن معه لا يلقون عسكرا إلا هزموه ، ولا
يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها ، ولم يجد فيمن معه من القواد من يكفيه
حربه ، اضطر إلى هرثمة ، وكان هرثمة حين قدم عليه الحسن بن سهل العراق
واليا عليها
من قبل المأمون سلم له ما كان بيده بها من الاعمال ، وتوجه نحو خراسان
مغاضبا للحسن ، فسار حتى بلغ حلوان ، فبعث إليه السندي وصالحا صاحب
المصلى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب ابي السرايا فامتنع وأبى ،
وانصرف الرسول إلى الحسن بإبائه ، فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة فأجاب
وأنصرف إلى بغداد . فقدمها في شعبان . . . " ( * )
|
|
|