- مقاتل الطالبيين- ابو الفرج الاصفهاني  ص 361 : -

رجع الحديث الى خبر أبي السرايا

قالوا : فلما خرج هرثمة عسكر في شرقي نهر صرصر . وعسكر أبو السرايا في غربيه . ووجه الحسن بن سهل إلى المدائن علي بن أبي سعيد ، وحمادا التركي وجماعة فقاتلوا محمد بن إسماعيل فهزموه واستولوا على المدائن . ومضى أبو السرايا

من فوره بالليل ، ولا يعلم هرثمة ، وكان جسر صرصر مقطوعا بينهما ، يريد المدائن فوجد أصحابه وقد أخرجوا عنها واستولى عليها المسودة فكانت بينهم مناوشة ، وقتل غلامه أبوالهرماس أصابه حجر عراده ، فدفنه بها ومضى نحو القصر ،

فلما صار بالرحب صار هرثمة إليه فلحقه هناك فقاتله قتالا شديدا ، فهزم أبو السرايا ، وقتل أخوه ، ومضى لوجهه حتى نزل الجازية ، وأتبعه هرثمة ، واجتمع رأيه على سد الفرات عليهم ومنعهم الماء ، وصبه في الآجام والمغايض التي في شرقي

الكوفة ، ففعل ذلك ، وانقطع الماء من الفرات ، فتعاظم ذلك الكوفيون ، وسقط في أيديهم ، وأزمعوا معالجة هرثمة ومنازلته ، فبينا هو كذلك : إذ فتق السكر الذي سكروه وأقبل الماء تحت الخشب ، وكبروا وحمدوا الله كثيرا ، وسروا بما وهب الله لهم من الكفاية . ثم إن هرثمة نهد إلى الكوفة مما يلي الرصافة .


وخرج أبو السرايا إليه في الناس فعبأهم ، وجعل على الميمنة الحسن بن الهذيل وعلى الميسرة جرير بن الحصين ، ووقف هو في القلب . وعبأ هرثمة خيلا نحو البر ، فبعث أبو السرايا عدتهم يسيرون بإزائهم لئلا يكونوا كمينا . ثم إن أبا السرايا حمل حملة فيمن معه ، فانهزم أصحاب هرثمة هزيمة رقيقة ، ثم عطفوا وجوه دوابهم 
 

- ص 362 -

فنادى أبو السرايا : لا تتبعوهم فانها خديعة ومكر ، فوقفوا وتبعهم أبو كتلة فأبعد ثم رجع وأعلم أبو السرايا أنهم قد عبروا الفرات . فرجع بالناس إلى الكوفة ثم خرج يوم الاثنين لتسع خلون من ذي القعدة وخرج الناس معه . وقد كان جاسوسه

أخبره أن هرثمة يريد مواقعته في ذلك اليوم ، فعبأ الناس مما يلي الرصافة ، ومضى هو تحت القنطرة ، فلم يبعد حتى أقبلت خيل هرثمة ، فرجع أبو السرايا كالجمل الهائج يكاد الغضب أن يلقيه عن سرجه إلى الناس فقال : سووا عسكركم ، وأجمعوا

أمركم ، وأقيموا صفوفكم ، وأقبل هرثمة فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بمثله . ونظر أبو السرايا إلى روح بن الحجاج قد رجع فقال : والله لئن رجعت لاضربن عنقك ، فرجع يقاتل حتى قتل . وقتل يومئذ الحسن بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين .

وقتل أبو كتلة غلام أبي السرايا واشتدت الحرب ، وكشف أبوا لسرايا رأسه وجعل يقول : أيها الناس ، صبر ساعة ، وثبات قليل ، فقد - والله - فشل القوم ، ولم يبق إلا هزيمتهم . ثم حمل ، وخرج إليه قائد من قواد هرثمة وعليه الدرع والمغفر

فتناوشا ساعة ، ثم ضربه أبو السرايا ضربة على بيضته فقده ، حتى خالط سيفه قربوس سرجه . وانهزمت المسودة هزيمة قبيحة ، وتبعهم اهل الكوفة يقتلونهم حتى بلغوا صعنبا فنادى أبو السرايا : يا اهل الكوفة احذروا كرهم بعد الفرة فان العجم

قوم دهاة ، فلم يصغوا إلى قوله وتبعوهم . وكان هرثمة قد اسرفي ذلك الوقت ولم يعلم أبو السرايا ، اسره عبد سندي ، وقبل ذلك خلف في عسكره زهاء خمسة آلاف فارس يكونون ردءا له إن انهزم اصحابه ، وخلف عليهم عبيدالله بن الوضاح فلما

وقعت الهزيمة ونادى أبو السرايا : لا تتبعوهم ، كشف عبيدالله بن الوضاح رأسه ، واصحابه يقولون : قتل الامير ، قتل الامير فناداهم : فماذا يكون إذا قتل الامير ؟ يا اهل خراسان إلي انا عبد الله بن الوضاح ، اثبتوا ، فوالله ما القوم إلا 
 

- ص 363 -

غوغاء ورعاع ، فثابت إليه طائفة ، وحمل على أهل الكوفة فقتل منهم مقتلة عظيمة وتبعوهم حتى جاوزوا صعنبا ، ووجدوا هرثمة أسيرا في يد عبد أسود ، فقتلوا العبد ، وحلوا وثاق هرثمة ، وعاد إلى معسكره ولم تزل الحرب مدة متراخية في كل

يوم أو يومين تكون سجالا بينهم . ثم إن أبا السرايا بعث علي بن محمد بن جعفر المعروف بالبصري في خيل وامره أن يأتي هرثمة من ورائه ، فمضى لوجهه ولم يشعر هرثمة حتى قرب منه ، وحمل أبو السرايا عليه فصاح هرثمة : يا اهل الكوفة

علام تسفكون دماءنا ودماءكم ؟ إن كان قتالكم إيانا كراهية لامامنا فهذا المنصور بن المهدي رضى لنا ولكم نبايعه ، وإن احببتم إخراج الامر من ولد العباس فانصبوا إمامكم ، واتفقوا معنا ليوم الاثنين نتناظر فيه ، ولا تقتلونا وانفسكم . فأمسك اهل الكوفة

عن الحملة ، وناداهم ابو السرايا : ويحكم إن هذه حيلة من هؤلاء الاعاجم ، وإنما إيقنوا بالهلاك فاحملوا عليهم ، فامتنعوا وقالوا : لا يحل لنا قتالهم وقد اجابوا . فغضب أبو السرايا وانصرف معهم ، وقد اراد قبل ذلك إجابة هرثمة وان يمضي إليه

مع محمد بن محمد بن زيد فيستأمن ، ثم خشى الغدر به . فلما كان يوم الجمعة خطب اهل الكوفة فحمد الله واثنى عليه ثم قال : يا اهل الكوفة ، ياقتلة علي ، وياخذلة الحسين ، إن المعتز بكم لمغرور ، وإن المعتمد على نصركم لمخذول ، وإن الذليل

لمن اعززتموه ، والله ما حمد علي امركم فنحمده ، ولا رضى مذهبكم فنرضى به ، ولقد حكمكم فحكمتم عليه وائتمنكم فخنتم امانته ووثق بكم فحلتم عن ثقته ، ثم لم تنفكوا عليه مختلفين ، ولطاعته ناكثين ، إن قام قعدتم ، وإن قعد قمتم ، وإن تقدم

تأخرتم ، وإن تأخر تقدمتم ، خلافا عليه وعصيانا لامره ، حتى سبقت فيكم دعوته ، وخذلكم الله بخذلانكم إياه ، أي عذر لكم في الهرب عن عدوكم ، والنكول عمن لقيتم وقد عبروا خندقكم ؟ وعلوا قبائلكم بنتهبون أموالكم ويستحيون حريمكم ، هيهات

لا عذر لكم إلا العجز والمهانة ، والرضا بالصغار والذلة ، إنما أنتم كفئ الظل تهزمكم الطبول بأصواتها ، ويملا 
 

- ص 364 -

قلوبكم الحرق بسوادها ، أما والله لاستبدلن بكم قوما يعرفون الله حق معرفته ، ويحفظون محمدا في عترته . ثم قال :

وما رست أقطار البلاد فلم اجد * لكم شبها فيما وطئت من الارض
خلافا وجهلا وانتشار عزيمة * ووهنا وعجزا في الشدائد والخفض

لقد سبقت فيكم إلى الحشر دعوة * فلا عنكم راض ولا فيكم مرضى
سأبعد داري من قلي عن دياركم * فذوقوا إذا وليت عاقبة البغض


فقامت إليه جماعة من اهل الكوفة فقالوا : ما أنصفتنا في قولك ، ما اقدمت واحجمنا ، ولا كررت وفررنا ، ولا وفيت وغدرنا ، ولقد صبرنا تحت ركابك وثبتنا مع لوائك ، حتى أفنتنا الوقائع ، واجتاحتنا ، وما بعد فعلنا غاية إلا الموت فامدد يدك نبايعك

على الموت ، فوالله لا نرجع حتى يفتح الله علينا أو يقضى قضاءه فينا فأعرض عنهم ، ونادى في الناس بالخروج لحفر الخندق ، فخرجوا فحفروا وأبو السرايا يحفر معهم عامة النهار ، فلما كان الليل خرج الناس من الحندق واقام إلى الثلث الاول

من الليل ، ثم عبأ بغاله واسرج خيله ، وارتحل هو ومحمد بن محمد بن زيد ، ونفر من العلويين والاعراب ، وقوم من أهل الكوفة ، وذلك في ليلة يوم الاحد لثلاث عشرة ليلة مضت من المحرم فأقام بالقادسية ثلاثا حتى تتام أصحابه ثم مضى على

خفان واسفل الفرات حتى صار على طريق البر ووثب بالكوفة اشعث ابن عبد الرحمن الاشعثي فدعا إلى هرثمة . وخرج اشراف اهل الكوفة إلى هرثمة فسألوه الامان للناس فأجابهم إلى ذلك وتألفهم . ودخل المنصور بن المهدي الكوفة ، وأقام

هرثمة خارجها ، وفرق عسكره حوالي خندقها وابوابها خوفا من حيلة ، وخطب المنصور بن المهدي بالناس فصلى بهم . وولى هرثمة غسان بن الفرج الكوفة واقام هو أياما بظهر البلد حتى أمن 
 

- ص 365 -

الناس وهدأت قلوبهم من وحشة الحرب ، ثم ارتحل إلى بغداد . قالوا : ومضى أبو السرايا يريد البصرة ، فلقيه أعرابي من اهل البلد ، فسأله عن الخبر واعلمه غلبة السلطان عليه وإخراج عماله عنه ، وان المسودة في خلق كثير لا يمكنه مقاومتهم

منها ، فعدل عنها واراد المسير نحوواسط فأعلمه الرجل ان صورة أمرها مثل ما ذكر له عن البصرة ، فقال له : فأين ترى ؟ قال : ارى ان تعبر دجلة فتكون بين جوفي والجبل ، فيجتمع معك اكرادهم ويلحق بك من اراد صحبتك من أعراب السواد

واكراده ، ومن رأى رأيك من أهل الامصار والطساسيج فقبل أبو السرايا مشورته، وسلك ذلك الطريق ، فجعل لا يمر بناحية ألا جبى خراجها وباع غلاتها . ثم عمد إلى الاهواز حتى صار إلى السوس ، فأغلقوا الباب دونه ، فنادى : افتحوا الباب

ففتحوا له فدخلها . وكان على كور الاهواز الحسن بن علي المأموني فوجه إلى أبي السرايا يعلمه كراهيته لقتاله ويسأله الانصراف عنه إلى حيث احب ، فلم يقبل ذلك ، وأبى إلا قتاله ، فخرج إليه المأموني فقاتله قتالا شديدا . وثبتت الزيدية

تحت ركاب محمد بن محمد بن زيد ، وثبت العلويون معه فقتلت منهم عدة ، وخرج اهل السوس فأتوهم من خلفهم ، فخرج غلام أبي السرايا ليقاتلهم فظن القوم أنها هزيمة فانهزموا ، وجعل اصحاب المأمونى ، يقتلونهم ، حتى اجنهم الليل فتفرقوا

وتقطعت دوابهم . ومضى أبو السرايا حتى أخذ على طريق خراسان ، فنزلوا قرية يقال لها : برقانا . وبلغ حماد الكندغوش خبرهم ، وكان يتقلد تلك الناحية ، فوجه إليهم خيلا ثم ركب بنفسه حتى لقيهم وآمنهم على ان ينفذ بهم إلى الحسن بن سهل

فقبلوا ذلك منه ، واعطى الذي اعلمه خبرهم عشرة آلاف درهم ، وحملهم إلى الحسن بن سهل . وبادر محمد بن محمد بكتاب إلى الحسن بن سهل ، يسأله ان يؤمنه على نفسه ويستعطفه فقال الحسن بن سهل : لابد من ضرب عنقك . فقال له بعض من كان يستنصحه : 
 

- ص 366 -

لا تفعل أيها الامير ، فان الرشيد لما نقم على البرامكة احتج عليهم بقتل ابن الافطس وهو عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي فقتلهم به ولكن احمله إلى أمير المؤمنين ، فعمل ذلك وحلف انه يقتل أبا السرايا . فلما أتته

بهم الرسل وهو نازل بالمدائن معسكرا قال لابي السرايا : من انت ؟ قال : السري بن المنصور . قال : لا بل أنت النذل ابن النذل ، المخذول ابن المخذول قم يا هارون بن أبي خالد فاضرب عنقه بأخيك عبدوس بن عبد الصمد ، فقام إليه فقدمه

فضرب عنقه . ثم أمر برأسه فصلب في الجانب الشرقي ، وصلب بدنه في الجانب الغربي . وقتل غلامه أبا الشوك وصلب معه . وحمل محمد بن محمد إلى خراسان ، فأقيم بين يدي المأمون وهو جالس في مستشرف له ، ثم صاح الفضل بن سهل

اكشفوا راسه فكشف راسه فجعل المأمون يتعجب من حداثة سنه ، ثم أمر له بدار فأسكنها وجعل له فيها فرشا وخادما ، فكان فيها على سبيل الاعتقال والتوكيل ، وأقام على ذلك مدة يسيرة يقال : إن مقدارها أربعون يوما ، ثم دست إليه شربة فكان

يختلف كبده وحشوته ، حتى مات . حدثني احمد بن محمد بن سعيد ، قال : قال يحيى بن الحسن ، حدثني محمد بن جعفر : أن محمد بن محمد سقى السم بمرو وتوفي بها وكان يختلف حتى اختلف كبده . قال : ونظر في الدواوين فوجد من قتل من اصحاب السلطان في وقائع أبي السرايا مائتا الف رجل .


 

 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب