- مقاتل الطالبيين- ابو الفرج الاصفهاني ص 344 : -

* ( ذكر السبب في خروج أبي السرايا ) *

كتب إلي علي بن أبي قربة العجلي ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الرحمن الكاتب ، قال حدثني نصر بن مزاحم المنقري بما شاهدمن ذلك ، قال وحدث بما غاب عنه عمن حضره فحدثني به ، ويحيى بن عبد الرحمن أيضا بنتف من خبره عن غير

نصر بن مزاحم ، واخبرني أحمد بن عبيدالله بن عمار ، عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي بأخباره . فربما ذكرت الشئ اليسير منها والمعنى الذي يحتاج إليه ، لان علي بن محمد كان يقول : بالامامة فيحمله التعصب لمذهبه على الحيف فيما يرويه

ونسبة من روى خبره من اهل هذا المذهب إلى قبيح الافعال ، واكثر حكاياته في ذلك بل سائرها عن أبيه موقوفا عليه لا يتجاوزه ، وابوه حينئذ مقيم بالبصرة لا يعلم بشئ من اخبار القوم . إلا ما يسمعه من السنة العامة على سبيل الاراجيف

والاباطيل ، فيسطره في كتابه عن غير علم ، طلبا منه لما شان القوم ، وقدح فيهم . فاعتمدت على رواية من كان بعيدا عن فعله في هذا ، وهي رواية نصر بن مزاحم ، إذا كان ثبتا في الحديث والنقل ، ويظهر انه ممن سمع خبر ابي السرايا عنه .

قالوا : كان سبب خروج محمد بن إبراهيم * وهو محمد بن إبراهيم بن إسماعيل ، وهو ابن طباطبا ، بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب * وابي السرايا أن نصر بن شبيب كان قدم حاجا وكان متشيعا حسن المذهب ، وكان ينزل

الجزيرة ، فلما ورد المدينة سأل عن بقايا اهل البيت ومن له ذكر منهم ، فذكر له : علي بن عبيدالله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، ومحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن

إبراهيم ابن الحسن بن الحسن . فأما علي بن عبيدالله فانه كان مشغولا بالعبادة لا يصل إليه احد ولا يأذن له ،
 

- ص 345 -

واما عبد الله بن موسى فكان مطلوبا خائفا لا يلقاه احد . وأما محمد بن إبراهيم فانه كان يقارب الناس ويكلمهم في هذا الشأن ، فأتاه نصر بن شبيب فدخل إليه وذاكره مقتل اهل بيته وغصب الناس إياهم حقوقهم وقال حتى متى توطئون بالخسف وتهتضم

شيعتكم وينزى على حقكم ؟ واكثر من القول في هذا المعنى إلى ان اجابه محمد بن إبراهيم ، وواعده لقاءه بالجزيرة . وانصرف الحاج ، ثم خرج محمد بن إبراهيم إلى الجزيرة ، ومعه نفر من اصحابه وشيعته ، حتى قدم على نصر بن شبيب

للموعد ، فجمع إليه نصر اهله وعشيرته وعرض ذلك عليهم ، فأجابه بعضهم وامتنع عليه بعض ، وكثر القول فيهم والاختلاف حتى تواثبوا وتضاربوا بالنعال والعصى ، وانصرفوا عن ذلك . ثم خلا بنصر بعض بني عمه واهله فقال له :

ماذا صنعت بنفسك واهلك ؟ افتراك إذا فعلت هذا الامر وتأبدت السلطان يدعك وما تريد ؟ لا والله بل يصرف همه اليك وكيده ، فان ظفر بك فلا بقاء بعدها وإن ظفر صاحبك وكان عدلا كنت عنده بمنزلة رجل من افناء اصحابه ، وإن كان غير ذلك

فما حاجتك إلى تعريض نفسك واهلك واهل بيتك لما لا قوام لهم به ؟ واخرى إن جميع هذا البلد اعداء لآل أبي طالب ، فان اجابوك الآن طائعين ، فروا عنك غدا منهزمين إذا احتجت إلى نصرهم ، على انك إلى خلافهم اقرب منك إلى إجابتهم ، ثم تمثل بقوله :

وابذل لابن العم نصحي ورأفتي * إذا كان لي بالخير في الناس مكرما
فان راغ عن نصحي وخالف مذهبي * قلبت له ظهر المجن ليندما
 

فثنى نصرا عن رأيه ، وفتر نيته ، فصار إلى محمد بن إبراهيم معتذرا إليه بما كان من خلاف الناس عليه ، ورغبتهم عن اهل البيت ، وانه لو ظن ذلك بهم لم يعده نصرهم ، وأومأ إلى ان يحمل إليه مالا ويقويه بخمسة آلاف دينار ، فانصرف محمد عنه مغضبا ، وأنشأ يقول ، والشعر له :

سنغنى بحمد الله عنك بعصبة * يهشون للداعي إلى واضح الحق

- ص 346 -

طلبت لك الحسنى فقصرت دونها * فأصبحت مذموما وزلت عن الصدق

جروا فلهم سبق وصرت مقصرا * ذميما بما قصرت عن غاية السبق
وما كل شئ سابق أو مقصر * يؤول به التقصير إلا إلى العرق


ثم مضى محمد بن إبراهيم راجعا إلى الحجاز ، فلقي في طريقه ابا السرايا السري بن منصور احد بني ربيعة بن ذهل بن شيبان ، وكان قد خالف السلطان ونابذه ، وعاث في نواحي السواد ، ثم صار إلى تلك الناحية فأقام بها خوفا على نفسه ،

ومعه غلمان له فيهم : أبو الشوك ، وسيار ، وأبو الهرماس ، غلمانه . وكان علوي الرأي ذا مذهب في التشيع ، فدعاه إلى نفسه فأجابه وسر بذلك وقال له : انحدر إلى الفرات حتى اوافي على ظهر الكوفة ، وموعدك الكوفة . ففعل ذلك ووافى

محمد بن إبراهيم الكوفة يسأل عن اخبار الناس ويتحسسها ويتأهب لامره ويدعو من يثق به إلى ما يريد ، حتى اجتمع له بشر كثير ، وهم في ذلك ينتظرون أبا السرايا وموافاته ، فبينا هو في بعض الايام يمشي في بعض طريق الكوفة إذ نظر إلى

عجوز تتبع احمال الرطب ، فتلقط ما يسقط منها فتجمعه في كساء عليها رث ، فسألها عما تصنع بذلك . فقالت : إني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤنتي ولي بنات لا يعدن على انفسهن بشئ ، فأنا اتتبع هذا من الطريق واتقوته أنا وولدي . فبكى بكاء شديدا،

وقال : انت والله واشباهك تخرجوني غدا حتى يسفك دمي . ونفذت بصيرته في الخروج ، واقبل أبو السرايا لموعده على طريق البر حتى ورد عين التمر في فوارس معه ، جريدة لا راجل فيهم واخذ على النهرين حتى ورد إلى نينوى فجاء إلى

قبر الحسين . قال نصر بن مزاحم ! فحدثني رجل من اهل المدائن ، قال : إنى لعند قبر الحسين في تلك الليلة ، وكانت ليلة ذات ريح ورعد ومطر ، إذا بفرسان قد اقبلوا
 

- ص 347 -

فترجلوا إلى القبر فسلموا ، واطال رجل منهم الزيارة ثم جعل يتمثل ابيات منصور ابن الزبرقان النمري :

نفسي فداء الحسين يوم عدا * إلى المنايا عدوا ولا قافل
ذاك يوم أنحى بشفرته * على سنام الاء سلام والكاهل

كأنما أنت تعجبين ألا * ينزل بالقوم نقمة العاجل
لا يعجل الله إن عجلت وما * ربك عما ترين بالغافل

مظلومة والنبي والدها * تدير ارجاء مقلة جافل
ألا مساعير يغضبون لها * بسلة البيض والقنا الذابل

قال : ثم اقبل علي فقال : ممن الرجل ؟ فقلت : رجل من الدهاقين من أهل المدائن . فقال سبحان الله ، يحن الولي إلى وليه كما تحن الناقة إلى حوارها ، يا شيخ إن هذا موقف يكثر لك عند الله شكره ويعظم اجره . قال : ثم وثب فقال : من كان هاهنا

من الزيدية فليقم إلي ، فوثبت إليه جماعات من الناس ، فدنوا منه فخطبهم خطبة طويلة ذكر فيها اهل البيت وفضلهم وما خصوا به ، وذكر فعل الامة بهم وظلمهم لهم ، وذكر الحسين بن علي فقال : أيها الناس، هبكم لم تحضروا الحسين فتنصروه

، فما يقعدكم عمن أدركتموه ولحقتموه ؟ وهو غدا خارج طالب بثأره وحقه ، وتراث آبائه ، وإقامة دين الله ، وما يمنعكم من نصرته ومؤازرته ؟ إنني خارج من وجهي هذا إلى الكوفة للقيام بأمر الله ، والذب عن دينه ، والنصر لاهل بيته ، فمن كان

له نية في ذلك فليلحق بي ثم مضى من فوره عائدا إلى الكوفة ومعه اصحابه . قال : وخرج محمد بن إبراهيم في اليوم الذي واعد فيه ابا السرايا للاجتماع بالكوفة ، واظهر نفسه وبرز إلى ظهر الكوفة ، ومعه علي بن عبيدالله بن الحسين ابن علي بن

الحسين ، واهل الكوفة منبثون مثل الجراد إلا انهم على غير نظام وغير قوة ، ولا سلاح إلا العصى والسكاكين والآجر ، فلم يزل محمد بن إبراهيم ومن
 

- ص 348 -

معه ينتظرون ابا السرايا ويتوقعونه فلا يرون له اثرا حتي أيسوا منه ، وشتمه بعضهم ولاموا محمد بن إبراهيم على الاستعانة به ، واغتنم محمد بن إبراهيم بتأخره ، فبينماهم كذلك إذ طلع عليهم من نحو الجرف علمان اصفران وخيل ، فتنادى الناس

بالبشارة فكبروا ونظروا ، فإذا هو أبو السرايا ومن معه ، فلما أبصر محمد بن إبراهيم ترجل واقبل إليه فانكب عليه واعتنقه محمد ، ثم قال له : يابن رسول الله ، ما يقيمك هاهنا ؟ ادخل البلد فما يمنعك منه احد ، فدخل هو وخطب الناس ، ودعاهم

إلى البيعة إلى الرضا من آل محمد والدعاء إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والسيرة بحكم الكتاب . فبايعه جميع الناس حتى تكابسوا وازدحموا عليه، وذلك في موضع بالكوفة يعرف بقصر الضرتين .


فحدثني احمد بن محمد بن سعيد الهمداني ، قال : حدثنا محمد بن منصور بن يزيد أبو جعفر المرادي ، قال : حدثنا الحسن بن عبد الواحد الكوفي ، قال : حدثنا الحسن بن الحسين عن سعيد بن خيثم بن معمر قال : سمعت زيد بن علي يقول : يبايع الناس

لرجل منا عند قصر الضرتين ، سنة تسع وتسعين ومائة ، في عشر من جمادي الاولى ، يباهي الله به الملائكة . قال الحسن بن الحسين : فحدثت به محمد بن إبراهيم فبكى .


حدثني احمد بن محمد بن سعيد ، قال : حدثنا محمد بن منصور ، قال : حدثنا علي بن الحسين ، قال : حدثنا عمر بن شبة المكي ، عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، قال : يخطب على اعوادكم يا اهل الكوفة سنة تسع وتسعين ومائة في جمادي الاولى رجل منا اهل البيت ، يباهي الله به الملائكة .


حدثني محمد بن الحسين الاشناني ، قال : حدثنا احمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا الحسن بن الحسين ، عن عمر بن شبة المكي بنحوه .


رجع الحديث إلى خبر أبي السرايا . قال : ووجه محمد بن إبراهيم إلى الفضل بن العباس بن عيسى بن موسى رسولا

- ص 349 -

يدعوه إلى بيعته ويستعين به في سلاح وقوة ، فوجد العباس قد خرج عن البلد وخندق حول داره ، واقام مواليه في السلاح للحرب ، فأخبر الرسول محمدا بذلك فأنفذ محمد ابا السرايا إليهم ، وأمره أن يدعوهم ولا يبدأهم بقتال ، فلما صار إليهم تبعه

اهل الكوفة كالجراد المنتشر ، فدعاهم فلم يصغوا إلى قوله ولم يجيبوا دعوته ، ورموه بالنشاب من خلف السور ، فقتل رجل من اصحابه أو جرح ، فوجه به إلى محمد بن إبراهيم ، فأمره بقتالهم فقاتلهم . وكان على السور خادم اسود واقف بين

شرفتين يرمي لا يسقط له سهم ، فأمر أبو السرايا غلامه أن يرميه ، فرماه بسهم فأثبته بين عينيه، وسقط الخادم على ام رأسه إلى اسفل فمات وفر موالي الفضل بن العباس فلم يبق منهم احد ، وفتح الباب فدخل اصحاب أبي السرايا ينتهبونها ويخرجون

حر المتاع منها ، فلما راى ذلك أبو السرايا حظره ومنع احدا من الخروج أو يأخذ ما معه ويفتشه ، فأمسك الناس عن النهب . قال : فسمعت أعرابيا يرتجز ومعه تخت فيه ثياب وهو يقول :

ما كان إلا ريث زجر الزاجره * حتى انتضيناها سيوفا باتره
حتى علونا في القصور القاهرة * ثم انقلبنا بالثياب الفاخره


قال : ومضى الفضل بن العباس فدخل على الحسن بن سهل فشكا إليه ما انتهك منه فوعده النصر والغرم والخلف ، ثم دعا بزهير بن المسيب فضم إليه الرجال وامده بالاموال وندبه إلى المسير نحو أبي السرايا وان يودعه من وقته ويمضي لوجهه

فيه ولا ينزل إلا بالكوفة ، وكان محمد بن إبراهيم عليلا علنه التي مات فيها . وكان الحسن بن سهل . لانتحاله النجوم ونظره فيما ، ينظر في نجم محمد فيراه محترقا ، فيبادر في طلبه ويحرص على ترويحه ، ويشغله ذلك عن النظر في امر عسكره .

فسار زهير بن المسيب حتى ورد قصر ابن هبيرة فأقام به ، ووجه ابنه ازهر بن زهير على مقدمته ، فنزل سوق اسد . وسار أبو السرايا من الكوفة وقت العصر فأغذ السير حتى اتى معسكر ازهر بن زهير بسوق اسد ، وهم غارون فيه وبيته ،
 

- ص 350 -

فطحن العسكر واكثر القتل فيه ، وغنم دوابهم واسلحتهم ، وانقطع الباقون في الليل منهزمين حتى وافت زهيرا بالقصر فتغيظ من ذلك . ورجع أبو السرايا إلى الكوفة ، وزحف زهير حتى نزل ووافت خريطة من الحسن بن سهل ، يأمره ألا ينزل إلا

بالكوفة ، فمضى حتى نزل عند القنطرة . ونادى أبو السرايا في الناس بالخروج ، فخرجوا حتى صادفوا زهيرا على قنطرة الكوفة في عشية صردة باردة ، فهم يوقدون النار يستدفئون بها ، ويذكرون الله ويقرأون القرآن ، وابو السرايا يسكن منهم

ويحثهم . واقبل اهل بغداد يصيحون يا اهل الكوفة : زينوا نساءكم واخواتكم وبناتكم للفجور ، والله لنفعلن بهم كذا وكذا . ولا يكنون . وابو السرايا يقول لهم : اذكروا الله وتوبوا إليه ، واستغفروه واستعينوه ، فلم يزل الناس في تلك الليلة يتحارسون

طول ليلتهم ، حتى إذا اصبح نهد إليهم فوقف في عسكره ، وقد عشيت ابصار الناس من الدروع والبيض والجواشن وهم على تعبئة حسنة ، واصوات الطبول والبوقات مثل الرعد العاصف ، وابو السرايا يقول : يا أهل الكوفة صححوا نياتكم ،

واخلصوا لله ضمائركم ، واستنصروه على عدوكم وابرأوا إليه من حولكم وقوتكم ، واقرأوا القرآن ، ومن كان يروي الشعر فلينشد شعر عنترة العبسي : قال : ومر بنا الحسن بن الهذيل يعترض الناس ناحية ناحية ويقول : يا معشر الزيدية ، هذا

موقف تستزل فيه الاقدام ، وتزايل فيه الافعال . والسعيد من حاط دينه ، والرشيد من وفى لله بعهده ، وحفظ محمدا في عترته . ألا ان الآجال موقوته ، والايام معدودة من هرب بنفسه من الموت كان الموت محيطا به ، ثم قال :

من لم يمت عبطة يمت هرما * الموت كأس والمرء ذائقها .


قال أبو الفرج الاصبهاني : الحسن بن الهذيل هذا ، صاحب الحسين المقتول بفخ ، وقد روى عنه الحديث .

- ص 351 -

قال : فطلع رجل من اهل بغداد مستلئما شاكي السلاح فجعل يشتم اهل الكوفه ويقول : لنفجرن بنسائكم ولنفعلن بكم ولنصنعن ، وانتدب إليه رجل من أهل الوازار - قرية بباب الكوفة - عليه إزار أحمر وفي يده سكين ، فألقى نفسه في الفرات وسبح

ساعة حتى صار إليه ، فدنا منه فأدخل يده في جيب درعه وجذبه إليه فصرعه وضرب بالسكين حلقه فقتله ، وجر برجله يطفو مرة ويغوص مرة اخرى حتى أخرجه إلى الكوفة فكبر الناس وارتفعت أصواتهم بحمد الله والثناء عليه والدعاء .

وخرج رجل من ولد الاشعث بن قيس فعبر إلى البغداديين ودعا للبراز فبرز إليه رجل فقتله ، وبرز إليه آخر فقتله ، وبرز إليه ثالث فقتله ، حتى قتل نفرا . وأقبل أبو السرايا فلما رآه شتمه وقال : من امرك بهذا ؟ ارجع فرجع فمسح سيفه بالتراب

ورده في غمده وقنع فرسه ومضى نحو الكوفة ، فلم يشهد حربا بعدها معهم ووقف أبو السرايا على القنطرة طويلا ، وخرج رجل من أهل بغداد فجعل يشتمه بالزنا لا يكنى . وابو السرايا واقف لا يتحرك ، ثم تغافل ساعة حتى هم بأن ينصرف ، ثم

حمل عليه فقتله وحمل على عسكرهم حتى خرج من خلفهم ، ثم حمل عليهم من خلف العسكر حتى رجع من حيث جاء . ووقف في موقفه وهو ينفخ وينفض علق الدم عن درعه . ثم دعا غلاما له فوجهه في نفر من اصحابه وامره ان يمضي

حتى يصير من وراء العسكر ، ثم يحمل عليهم لا يكذب ، فمضى الغلام لوجهه مع من معه قاصدا لما أمره به ، ووقف أبو السرايا على القنطرة على فرس له ادهم محذوف ، وقد اتكأ على رمحه فنام على ظهر الفرس حتى غط ، واهل الكوفة

جزعون لما يرونه من عسكر زهير ، ويسمعونه من تهددهم ووعيدهم ، وهم يضجون ويصيحون بالتكبير والتهليل حتى يسمع أبو السرايا فينتبه من نومه ، فلم ينتبه حتى ظن أن الكمين الذي بعثه قد انتهى إلى حيث أمره فصاح بفرسه : قتال ، ثم قنعه حتى رضى بحفزه

- ص 352 -

ثم أومأ بيده نحو الكمين الذي بعثه ، وصاح بأهل الكوفة : احملوا ، وحمل وتبعوه فلم يبق من أصحاب زهير أحد إلا التفت نحو الاء شارة . وخالط أبو السرايا وغلامه سيار العسكر ، وتبعه اهل الكوفة وصاح بغلامه. ويلك ياسيار ألا تراني ، فحمل

سيار على صاحب العلم فقتله وسقط العلم ، وانهزمت المسودة . وتبعهم أبو السرايا واصحابه ونادى : من نزل عن فرسه فهو آمن فجعلوا يترجلون ، واصحاب أبي السرايا يركبون ، وتبعوهم حتى جاوزوا شاهي ، ثم التفت زهير إلى أبي السرايا

فقال : ويحك ، أتريد هزيمة اكثر من هذه ؟ إلى اين تتبعني ؟ فرجع وتركه . وغنم اهل الكوفة غنيمة لم يغنم أحد مثلها ، وصاروا إلى عسكر زهير ابن المسيب ومطابخه قد اعدت واقيمت ، وكان قد حلف ألا يتغدى إلا في مسجد الكوفة ، فجعلوا

يأكلون ذلك الطعام ، وينتهبون الاسلحة والآلة ، وكانوا قد أصابهم جوع وجهد شديد . ومضى زهير لوجهه حتى دخل بغداد مستترا ، وبلغ خبره الحسن بن سهل فأمر باحضاره ، فلما رآه رماه بعمود حديد كان في يده فشتر إحدى عينيه وقال لبعض

من كان بحضرته : اخرجه فاضرب عنقه ، فتشفعوا فيه ، فلم يزل يكلم فيه حتى عفا عنه . ودخل أبو السرايا الكوفة ، ومعه خلق كثير من الاسارى ، ورؤوس كثيرة على الرماح مرفوعة ، وفي صدور الخيل مشدودة ، ومن معه من اهل الكوفة قد

ركبوا الخيل ولبسوا السلاح ، فهو في حالة واسعة ، وانفسهم بما رزقوه من النصر قوية . واشتد غم الحسن بن سهل ومن بحضرته من العباسيين ، لما جرى على عسكر زهير ، وطال اهتمامهم به ، فدعا الحسن بن سهل بعبدوس بن عبد الصمد ،

وضم إليه الف فارس وثلاثة آلاف راجل وازاح علته في الاء عطاء ، وقال : إنما أريد ان أنوه باسمك فانظر كيف تكون ، واوصاه بما احتاج إليه ، وامره ألا يلبث . فخرج من بين يديه وهو يحلف ان يبيح الكوفة ، ويقتل مقاتلة اهلها ويسبي
 

- ص 353 -

ذراريهم ، ثلاثا . ومضى لوجهه لا يلوي على شئ حتى صار إلى الجامع ، وقد كان الحسن بن سهل تقدم إليه بذلك وأمره ألا يأخذ على الطريق الذي انهزم فيه زهير ، لئلا يرى أصحابه بقايا قتلى عسكره ، فيجبنوا من ذلك . فأخذ على الطريق

الجامع ، فلما وافاها وبلغ أبا السرايا خبره ، صلى الظهر بالكوفة ، ثم جرد فرسان اصحابه ومن يثق به منهم واغذ السير بهم ، حتى إذا قرب من الجامع فرق اصحابه ثلاث فرق وقال : شعاركم : يا فاطمي يا منصور " ، واخذ هو في جانب السوق

واخذ سيار في سيره الجامع وقال لابي الهرماس : خذ بأصحابك على القرية فلا يفتك أحد منهم ، ثم احملوا دفعة واحدة من جوانب عسكر عبدوس ، ففعلوا ذلك فأوقعوا به وقتلوا منه مقتلة عظيمة ، وجعل الجند يتهافتون في الفرات طلبا للنجاة ،

حتى غرق منهم خلق كثير . ولقى أبو السرايا عبدوسا في رحبة الجامع ( 1 ) فكشف خوزته عن راسه وصاح : أنا أبو السرايا ، أنا أسد بني شيبان ، ثم حمل عليه ، وولى عبدوس من بين يديه ، وتبعه أبو السرايا فضربه على رأسه ضربة

فلقت هامته وخر صريعا عن فرسه . وانتهب الناس من اصحاب أبي السرايا واهل الجامع عسكر عبدوس ، وأصابوا منه غنيمة عظيمة ، وانصرفوا إلى الكوفة بقوة واسلحة . ودخل أبو السرايا إلى محمد بن إبراهيم وهو عليل يجود بنفسه فلامه

على تبييته العسكر ، وقال : أنا أبرأ إلى الله مما فعلت ، فما كان لك أن تبيتهم ، ولا تقاتلهم حتى تدعوهم ، وما كان لك ان تأخذ من عسكرهم إلا ما اجلبوا به علينا من السلاح .
 

 

هامش

 
 

( 1 ) في الطبري 10 - 228 " فتوجه أبو السرايا إلى عبدوس ، فواقعه بالجامع يوم الاحد لثلاث عشرة بقيت من رجب ، فقتله ، وأسر هارون بن محمد بن أبي خالد ، واستباح عسكره ، وكان عبدوس فيما ذكر في أربعة آلاف فارس ، فلم يفلت منهم أحد كانوا بين قتيل

وأسير . وانتشر الطالبيون في البلاد . وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة ، ونقش عليها " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص " . ( * )

 

 

- ص 354 -

فقال أبو السرايا : يابن رسول الله ، كان هذا تدابير الحرب ، ولست اعاود مثله .ثم رأى في وجه محمد الموت فقال له : يابن رسول الله ، كل حي ميت ، وكل جديد بال ، فاعهد إلي عهدك . فقال : أوصيك بتقوى الله ، والمقام على الذب عن دينك ،

ونصرة أهل بيت نبيك صلى الله عليه وآله ، فان أنفسهم موصولة بنفسك ، وول الناس الخيرة فيمن يقوم مقامي من آل علي ، فان اختلفوا فالامر إلى علي بن عبيدالله ، فاني قد بلوت طريقته ورضيت دينه . ثم اعتقل لسانه ، وهدأت جوارحه ، فغمضه

أبو السرايا وسجاه ، وكتم موته ، فلما كان الليل اخرجه في نفر من الزيدية إلى الغري فدفنه . فلما كان من الغد جمع الناس فخطبهم ، ونعى محمدا إليهم وعزاهم عنه فارتفعت الاصوات بالبكاء إعظاما لوفاته . ثم قال : وقد اوصى أبو عبد الله رحمة

الله عليه إلى شبيهه ومن اختاره ، وهو أبو الحسن علي بن عبيدالله ، فان رضيتم به فهو الرضا ، وإلا فاحتاروا لانفسكم . فتواكلوا ونظر بعضهم إلى بعض ، فلم ينطق احد منهم فوثب محمد بن محمد ابن زيد وهو غلام حدث السن ، فقال : يا آل

علي : فات الهالك النجا ، وبقي الثاني بكرمه ، إن دين الله لا ينصر بالفشل ، وليست يد هذا الرجل عندنا بسيئة ، وقد شفى الغليل ، وادرك الثأر ، ثم التفت إلى علي بن عبد الله فقال : ما تقول يا ابا الحسن رضي الله عنك ؟ فقد وصانا بك امدد يدك

نبايعك ، فحمد الله واثنى عليه ثم قال : إن أبا عبيد الله رحمة الله عليه قد اختار فلم يعد الثقة في نفسه ، ولم يأل جهدا في حق الله الذي قلده ، وما ارد وصيته تهاونا بأمره ، ولا ادع هذا نكولا عنه ، ولكن اتخوف ان اشتغل به عن غيره مما هو احمد

وافضل عاقبة ، فامض رحمك الله لامرك واجمع شمل ابن عمك ، فقد قلدناك الرياسة علينا ، وأنت الرضا عندنا ، الثقة في أنفسنا . ثم قال لابي السرايا : ما ترى ؟ أرضيت به ؟ قال : رضائي في رضاك وقولي مع قولك ، فجذبوا يد محمد بن محمد فبايعوه ، وفرق عماله .
 

- ص 355 -

فولى إسماعيل بن على بن إسماعيل بن جعفر خلافته على الكوفة . وولى روح ابن الحجاج شرطته . وولى احمد بن السرى الانصاري رسائله . وولى عاصم بن عامر القضاء . وولى نصر بن مزاحم السوق . وعقد لابراهيم بن موسى بن جعفر على

اليمن . وولى زيد بن موسى بن جعفر الاهواز . وولى العباس بن محمد بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر ابن ابي طالب البصرة . وولى الحسن بن الحسن الافطس مكة . وعقد لجعفر بن محمد بن زيد بن علي ، والحسين بن إبراهيم بن

الحسن بن علي واسطا . فخرجوا إلى اعمالهم . فأما ابن الافطس فلم يمنعه احد مما وجه له ، فأقام الحج تلك وهي سنة تسع وتسعين ومائة . وأما إبراهيم بن موسى فأذعن له اهل اليمن بالطاعة ، بعد وقعة كانت بينهم يسيرة المدة . واما صاحبا واسط

فان نصر البجلي صاحب واسط خرج اليهما فقاتلهما قتالا شديدا ، فثبتا له ثم انهزم ودخلا واسطا وجبيا الخراج وتألفا الناس . وأما الجعفري صاحب البصرة فانه خرج إليه علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين فاجتمعا ، ووافاهم زيد بن موسى

بن جعفر ماضيا إلى الاهواز ، فاجتمعوا ، ولقيهم الحسن بن علي المعروف بالمأمون - رجل من اهل باذغيس وكان على البصرة - فقاتلوه وهزموه وحووا عسكره . وحرق زيد بن موسى دور بني العباس بالبصرة ، فلقب بذلك وسمى زيد النار .

وتتابعت الكتب وتواترت على محمد بن محمد بالفتوح من كل ناحية . وكتب إليه اهل الشام والجزيرة انهم ينتظرون أن يوجه إليهم رسولا ليسمعوا له ويطيعوا . وعظم امر أبي السرايا على الحسن بن سهل وبلغ منه ، فكتب إلى
 

- ص 356 -

طاهر بن الحسين أن يصير إليه لينفذه لقتاله ، فكتبت إليه رقعة لا يدري من كتبها فيها ابيات وهي :

قناع الشك يكشفه اليقين * وافضل كيدك الرأى الرصين
تثبت قبل ينفذ فيك أمر * يهيج لشره داء دفين

اتندب طاهر لقتال قوم * بنصرتهم وطاعتهم يدين
سيطلقها عليك معقلات * تصر ودونها حرب زبون

ويبعث كامنا في الصدر منه * ولا يخفى إذا ظهر المصون
فشأنك واليقين فقد أنارت * معالمه واظلمت الظنون
ودونك ما نريد بعزم رأى * تدبره ودع ما لا يكون


فرجع عن رأيه ذلك ، وكتب إلى هرثمة بن اعين يأمره بالقدوم عليه ، ودعا بالسندي بن شاهك فسأله التعجيل وترك التلوم ، وكان ردء اله ، وكانت بين الحسن ابن سهل وبين هرثمة شحناء ( 1 ) ، فخشى أن لا يجيبه إلى ما يريد ، ففعل ذلك السندي ومضى إلى هرثمة فلحقه بحلوان ، فأوصل إليه الكتاب ، فلما قرأه تغيظ وقال :
 

 

هامش

 
 

( 1 ) - في الطبري 10 / 228 " فلما رأى الحسن بن سهل ان ابا السرايا ومن معه لا يلقون عسكرا إلا هزموه ، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها ، ولم يجد فيمن معه من القواد من يكفيه حربه ، اضطر إلى هرثمة ، وكان هرثمة حين قدم عليه الحسن بن سهل العراق واليا عليها

من قبل المأمون سلم له ما كان بيده بها من الاعمال ، وتوجه نحو خراسان مغاضبا للحسن ، فسار حتى بلغ حلوان ، فبعث إليه السندي وصالحا صاحب المصلى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب ابي السرايا فامتنع وأبى ، وانصرف الرسول إلى الحسن بإبائه ، فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة فأجاب وأنصرف إلى بغداد . فقدمها في شعبان . . . " ( * )

 

 

- ص 357 -

نوطئ نحن الخلافة ، ونمد لهم اكنافها ، ثم يستبدون بالامور ، ويستأثرون بالتدبير علينا ، فإذا انفتق عليهم فتق بسوء تدبيرهم وإضاعتهم الامور أرادوا أن يصلحوه بنا ، لا والله ولا كرامة حتى يعرف أمير المؤمنين سوء آثارهم وقبيح افعالهم .

قال السندي : وباعدني مباعدة آيسني فيه من نفسه ، فبينا انا كذلك إذ جاءه كتاب من منصور بن المهدي فقرأه فجعل يبكي بكاء طويلا ، ثم قال : فعل الله بالحسن بن سهل وصنع ، فانه عرض هذه الدولة للذهاب ، وافسد ما صلح منها ، ثم أمر فضرب

بالطبل ، وانكفأ راجعا إلى بغداد . فلما صار بالنهروان تلقاه اهل بغداد ، والقواد ، وبنو هاشم ، وجميع الاولياء مسرورين بقدومه داعين له ، وترجلوا جميعا حين رأوه ، فدخل بغداد في جمع عظيم حتى أتى منزله . وأمر الحسن بن سهل بدواوين

الجيش فنقلت إليه ليختار الرجال منها وينتخبهم ، واطلق له بيوت الاموال فانتخب من اراد ، وازاح العلة في العطيات والنفقات ، وخرج إلى الياسرية فعسكر بها . قال الهيثم بن عدي : فدخلت إليه وسلمت عليه ومازحته ، وهو في نحو ثلاثين

الف فارس وراجل، فقلت له : أيها الامير، لو خضبت لكان للعدو أهيب وأحسن للمنظر ، فضحك ثم قال : إن كان رأسي لي فسأخضبه ، وإن انقلب به اهل الكوفة فما يصنع بالخضاب . قال : ثم نادى بالرحيل إلى الكوفة ، فرحل الناس وأبو السرايا

بالقصر ، وقد عقد لمحمد بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله الارقط بن عبد الله بن علي بن الحسين ، على المدائن ، ووجه معه العباس الطبطبي ، والمسيب في جمع عظيم ، فلقوا الحسين بن علي المعروف بأبي البط فالتقوا بساباط المدائن فاقتتلوا قتالا شديدا ، وهزم أبوالبط واستولى محمد بن إسماعيل على البلد .


 

 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب