- مقاتل الطالبيين- ابو الفرج الاصفهاني ص 1 : - |
مقاتل الطالبيين لابي الفرج
الاصفهاني 284 - 356
قدم له وأشرف على طبعه كاظم المظفر الطبعة الثانية الناشر
مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر قم - ايران منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها
في النجف ت ( 368 ) 1385 ه - 1965 م
* ( بسم الله الرحمن الرحيم ) *
أبو الفرج الاصبهاني ( * ) بقلم : كاظم المظفر ليس هناك من
مؤلف في اللغة العربية خلف وراءه مثل هذا الاثر الفكري الضخم كأبي الفرج
الاصبهاني ، حتى كان في رأي الدكتور زكي مبارك أكبر مؤلف عرفته العربية !
1 - نسبه : وأبو الفرج هو علي بن الحسين بن
محمد بن احمد بن الهيثم بن عبد الرحمن ابن مروان بن عبد الله بن مروان المعروف
بالحمار آخر خلفاء الدولة الاموية في الشام .
|
* هامش * |
|
|
( * ) اعتمدنا في كتابة هذه الترجمة على المصادر الآتية :
|
|
( 1 ) يتيمة الدهر للثعالبي
( 2 ) الفهرست لابن النديم
( 3 ) نشوار المحاضرة للتنوخي
( 4 ) الكامل لابن الاثير
( 5 ) المنتظم لابن الجوزي
( 6 ) تاريخ بغداد للخطيب
( 7 ) وفيات الاعيان لابن خلكان
( 8 ) عيون التواريخ لابن شاكر
( 9 ) معجم الادباء لياقوت
|
( 10 ) الاغاني
( 11 ) مقاتل الطالبيين
( 12 ) العبر لابن خلدون
( 13 ) روضات الجنات للخونساري
( 14 ) أمل الآمل للحر العاملي
( 15 ) كشف الظنون لكاتب چلبي
( 16 ) دائرة المعارف الاسلامية
( 17 ) النثر الفني في القرن الرابع لزكى
مبارك .
|
|
2 - ولادته ومسكنه : ولد
في مدينة اصبهان عام 284 هج - 897 م ، ومن هنا لحقته النسبة إلى هذه المدينة ،
مع انه لم ينشأ بها ، وإنما نشأ في مدينة بغداد وجعلها موطنا له ، حتى ان داره
التي كان يسكنها ببغداد معروفة ، ونص على أنها واقعة على نهر دجلة في المكان
المتوسط بين درب سليمان ودرب دجلة ، وهي ملاصقة لدار الوزير ابي الفتح البريدي
.
3 - شخصيته الثقافية : وكان أبو الفرج ذا
شخصية ثقافية متعددة الجوانب كثيرة المعارف . ويكفينا للتعريف بشخصيته الثقافية
هذه الشهادة التالية التي منحها له معاصره : القاضي أبو علي المحسن بن علي
التنوخي الذي يقول فيه : " ومن الرواة
المتسعين الذين شاهدناهم أبو الفرج علي بن الحسين الاصبهاني
فانه كان يحفظ من الشعر والاغاني والاخبار والآثار والحديث المسند والنسب ، ما
لم أر قط من يحفظ مثله ! وكان شديد الاختصاص بهذه الاشياء ، ويحفظ دون ما يحفظ
منها علوما أخر ،
منها : اللغة ، والنحو ، الخرافات والسير ، والمغازي ، ومن
آلة المنادمة شيئا كثيرا مثل علم الجوارح والبيطرة ونتفا من الطب والنجوم
والاشربة وغير ذلك " .
4 - مكانته الاجتماعية وكانت لابي الفرج
مكانته الاجتماعية العالية في منتديات بغداد الادبية ومجالسها العلمية ، بسبب
الحظوة الكبيرة التي نالها من ركن الدولة البويهي الذي صيره كاتبا له . وكانت
مثل هذه الوظيفة سببا وجيها لرفع مكان أبي الفرج في الوسط الاجتماعي والسياسي
للدولة العباسية .
5 - صلته بالوزير الملهبي :
ثم الحظوة الكبيرة الاخرى التي حصل عليها أبو الفرج من الحسن بن محمد ابن هارون
الملهبي - وزير معز الدولة البويهي - وكان أبو الفرج معدودا من ندماء المهلبي
واصحابه الخصيصين به . والذي جعله قريبا إلى
نفس المهلبي ، صحبته الطويلة له قبل توليه الوزارة ، يوم كان
المهلبي معدما صفر اليدين لا يجد ما يتقوت به . وكان طبيعيا ان تظل هذه الصحبة
موصولة الاسباب وثيقة العرى بعد تولي المهلبي منصب الوزارة . وقد دامت هذه
الصحبة مدة وزارة
المهلبي التي اربت على ثلاث عشرة سنة ، إلى ان فرق الموت
بينهما ، فتوفى المهلبي عام 352 هج ، وتوفي أبو الفرج بعده باربعة اعوام اي
عام 256 هج 967 م . وهكذا تستمر الصلة الادبية بين المهلبي وابي الفرج ، لا
تكاد تنفصم عراها أو يعتريها الانحلال والسأم والقطيعة ، في مثل ذلك المجتمع
السياسي الصاخب الذي يتميز بالدس والتقلب والوقيعة .
وكان أبو الفرج يترصد المناسبات المختلفة فينظم
القصائد الرائعة في مدح المهلبي ، وهي في غاية الظرف والملاحة والترسل ، مما
سنورد بعضها فيما بعد ، والف له أبو الفرج كتابا بعنوان " نسب المهالبة "
والمهالبة هم ولد المهلب بن أبي صفرة
الذي ينتسب له الوزير المهلبي ، والف له كتابا آخر بعنوان "
مناجيب الخصيان " لان المهلبي كان يهيم بغلامين خصيين مغنيين كانا له !
6 - من شعره في مدح المهلبي ومن روائع ما
انشده أبو الفرج في المهلبي قوله من قصيدة يشكوه الفقر ويترجى نواله :
وهذا الشتاء كما قد ترى * عسوف علي
قبيح الاثر
يغادي بصر من العاصفا * ت أو دمق مثل
وخز الابر ( 1 )
وسكان دارك ممن أعو * ل يلقين من برده كل شر
فهذي تحن وهذي تئن * وادمع هاتيك تجري درر ( 2 )
إذا ما تململن تحت الظلام * تعللن منك بحسن النظر
ولاحظن ربعك كالممحلي * ن شاموا البروق رجاء المطر
يؤملن عودي بما ينتظرن * كما يرتجى آئب من سفر
فانعم بانجاز ما قد وعدت * فما غيرك اليوم من ينتظر
وعش لي وبعدي فانت الحيا * ة والسمع من جسدي والبصر
وفي هذا الشعر - كما يلاحظ القارئ - سلاسة وغذوبة
، وفيه كذلك ترسل أشبه ما يكون بالسهل الممتنع، وفيه اخيرا اجمل ما تكون
الالفاظ المنتقاة والمعاني الاصلية المناسبة ، ولا يكاد القارئ يتمالك نفسه من
مشاركة الشاعر في احاسيسه التي لونها
ورسمها بمثل هذه الصورة المشوقة البارعة . وعلى اية حال فان
شعر ابي الفرج - كما هو في تعبير الثعالبي - يجمع اتقان العلماء وإحسان ظرفاء
الشعراء .
7 - إباؤه ولم يكن أبو الفرج يرضى لنفسه
إلا الاجلال والاحترام ، ولا يصبر على اي تهاون في ذلك يلقاه حتى من اكابر
الدولة ورؤوس الملك في بغداد .
وحين عرف أبو الفرج ابا الفضل بن العميد ، وزير ركن الدولة
البويهي - في وقت كان أبو الفرج كاتبا لركن الدولة ، جرى بين الرجلين ما يجري
عادة بين رجال السياسة التقليدية من التنافس والشحناء ، وكان أبو الفرج يتوقع
من ابن
|
* هامش * |
|
|
( 1 ) - ريح مر : شديدة الصوت أو البرد . والدمق الريح والثلج .
( 2 ) - الدرر ( بالكسر ) جمع درة وهي في الامطار ان يتبع بعضها بعضها
( * )
|
|
|
العميد ان يكرمه ويجله ويرعى حرمته في دخوله وخروجه . ولكنه
حين عدم ذلك من ابن العميد لم يطق صصبرا دون ان يثأر لكرامته ، فتجيش نفسه بهذه
الابيات التي يعاتب فيها ابن العميد ويذكره بانعدام الفروق بينهما في الارومة
والفضيلة ، فيقول له
مالك موفور فما باله * اكسبك التيه
على المعدم ؟
ولم إذا جئت نهضنا وإن * جئنا تطاولت ولم تتمم ؟
وإن خرجنا لم تقل مثل ما * نقول : " قدم طرفه قدم " ؟
ان كنت ذاعلم فمن ذا الذي * مثل الذي تعلم لم يعلم ؟
ولست في الغارب من دولة * ونحن من دونك في المنسم
وقد ولينا وعزلنا ، كما * انت ، فلم نصغر ولم نعظم
تكافأت احوالنا كلها * فصل على الانصاف أو فاصرم
ومع ان المهلبي كان وزيرا في زمن كانت الوزارة
كالصك الذي يملك صاحبه رقاب الناس واموالهم ومصائرهم ، وان ابا الفرج لم يكن
إلا اديبا كسائر الادباء الكثر الذين كانت تحفل بهم يومئذ اندية بغداد - مع كل
هذا الفارق الكبير بين مكانة
الرجلين السياسية والاجتماعية ، فان ابا الفرج لم يكن يرضى
لنفسه الابية اي ذل أو هوان ، ولم يكن يقبل من صاحبه المهلبي معاملة دون معاملة
الند للند .
والقارئ يلحظ هذا المعنى واضحافي حادث جرى لابي
الفرج مع المهلبي ، إذ راى أبو الفرج منه بعض ما يكره ، فماعتم ان جابهه بكل
إباء وشمم يخاطبه كمن يلوم نفسه على صحبته :
أبعين مفتقر اليك رأيتني * بعد الغنى
فرميت بي من حالق ؟
لست الملوم انا الملوم لانني * املت للاحسان غير الخالق !
قذارة جسمه وثيابه : والاهم من
كل ذلك صبر المهلبي على صحبة ابي الفرج ، مع الفارق الكبير بين ترف المهلبي
وتبذل ابي الفرج . فنرى ان المهلبي حين يباشرا كل ما يتناول بالملعقة كالارز
واللبن مثلا ، يقف إلى جانبه الايمن غلام معه نحو ثلاثين
ملعقة زجاجا مجرودا مجلوا - وكان المهلبي يستعمل مثل هذه
الملاعق كثيرا ، فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة واحدة ، ثم يدفعها
إلى غلام آخر قائم إلى الجانب الايسر ، وبعدها يأخذ اخرى فيفعل بها فعل الاولى
حتى ينال الكفاية لئلا
يعيد الملعقة إلى فمه مرة ثانية : وفي الطرف المقابل كان أبو
الفرج عديم العناية - مهما كانت ضيئلة ، بنظافة جسمه وثيابه ، والمعروف عنه انه
لم يكن يغسل له ثوبا منذ ان يفصله إلى ان يقطعه ولم يكن ينزع دراعته إلا بعد ان
تبلى ! حتى تناهى في
القذارة إلى مالا غاية بعده - بنص احد مؤرخيه - . وكان إلى كل
ذلك اكولا نهما لا يتقيد بآداب المائدة . حدث ذات يوم ان كان أبو الفرج جالسا
على مائدة المهلبي ، فقدمت سكباجة ( 1 ) وافقت من ابي الفرج سعلة ، فبدرت من
فمه قطعة من بلغم
سقطت وسط غضارة السكباجة ! فتقدم المهلبي برفعها وقال : هاتوا
من هذا اللون في غير هذه الصفحة . حدث كل ذلك ولم يبن في وجه المهلبي إنكار ولا
استكراه ، ولا داخل أبا الفرج في هذا الحال استحياء ولا انقباض .
|
* هامش * |
|
|
( 1 ) - السكباجة واحدة السكباج وهو لحم يطبخ بخل . ( * )
|
|
|
9 - بين الادب والبيطرة
ومن المفارقات العجيبة - وما اكثرها - في حياة ابي الفرج ، جمعه بين علوم
مختلفة كالرواية واللغة والتاريخ والشعر من جهة ، والجوارح والنجوم والطب
والبيطرة من جهة أخرى ، وهذه العلوم هي في نظر الانسان المعاصر متنافرة لا
يجمعها جامع من الدراسة المنهجية .
فكيف يستطيع مزاج الاديب الشاعر الظريف ، ان يجمع إلى ظرفه وأدبه علم البيطرة
مثلا ، ثم يحتمل اجراء التجاريب العلاجية على الحيوانات ؟ كما فعل أبو الفرج في
القصة الغريبة الطريفة التالية : كان لابي الفرج سنور ابيض يسميه " يققا "
وقد مرض يقق هذا ذات مرة بالقولنج ، فشغل أبو الفرج بعلاجه ،
فتفقده اصحابه لانقطاعه عنهم ، فذهب إليه جماعة منهم لقضاء حقه وتعرف خبره ،
فطلع عليهم أبو الفرج من البيت بعد مدة ويده ملوثة بما ظنوه شيئا كان يأكله .
فقالوا له عققناك
بان قطعناك عما كان اهم من قصدنا اليك . فأجابهم لا والله يا
سادتي ما كنت على ما تظنون ، وإنما لحق يققا قولنج ، فاحتجت إلى حقنه ، فانا
مشغول بذلك . فلما سمعوا كلامه ورأوا التلوث في يده نفروا منه ، واعتذروا إليه
، وانصرفوا عنه . وربما
عني أبو الفرج سنوره " يققا " هذا في القصيدة التي ارسلها إلى
صديقه الوزير المهلبي ، يشكوه ما يلقى من اذى الفئران ويحمد ما يصنعه سنوره
فيها من التقتيل والتشريد ، ثم يعرج بعد ذلك إلى وصف هذا السنور اجمل الوصف
واملحه . فاسمعه يقول :
يالحدب الظهور قصع الرقاب * لدقاق
الانياب والاذناب
خلقت للفساد مذ خلق الخل * ق ولليعث والاذى والخراب
ناقبات في الارض والسقف والحي * طان
نقبا اعيا على النقاب
آكلات كل المآ كل لا تا * منها شاربات كل الشراب
آ لفات قرض الثياب وقد يع * دل قرض القلوب
قرض الثياب زال همي منهن أزرق ترك * ي السبالين أنمر الجلباب ( 1 )
ليث غاب خلقا وخلقا فمن لا * ح لعينيه خاله ليث غاب
ناصب طرفه إزاء الزوايا * وإزاء السقوف والابواب
ينتضى الظفر حين يطفر للصيد * دورا لا فظفره في قراب
لا ترى اخبثيه عين ولا يع * لم ما جنتاه غير التراب ( 2 )
قرطوه وشنفوه وحلو * ه أخيرا واولا بالخضاب
فهو طورا يمشي بحلي عروس * وهو طورا يخطو على عناب
حبذا ذاك صاحبا هو في الصح * بة اوفى من اكثر الاصحاب
10 - ولعه بتربية الحيوانات : ولعل تكلف
ابي الفرج لعلاج سنوره بالحقنة وصبره على ذلك ، آت من ولعه الشديد بتربية
الحيوانات الاهلية ، وقد آثر ان يذكر هذه الحيوانات في القليل مما خلفه التاريخ
من شعره . وكان لابي الفرج ديك جميل مختال كالطاووس حبيب إلى نفس صاحبه يؤثره
على دواجنه الاخرى ، ويلحظه - من بينها - بعين الاهتمام والرعاية ، لكن الموت
|
* هامش * |
|
|
( 1 ) - يريد بقوله تركي السبالين : طويل الشاربين ، إذ السبال هو
الشارب والانمر ما فيه نمرة بيضاء واخرى سوداء .
( 2 ) - جن الشئ اخفاه وستره . ( * )
|
|
|
فجعه بهذا الديك الجميل ، فعكف على نظم قصيدة مطولة يرثيه
فيها احر الرثاء . ويتفجع فيها على هذا الديك كالتفجع الذي ينبعث على فقد اي
صديق أثير عزيز حتى اعتبر البعض هذه القصيدة " من اجود ما قيل في مراثي
الحيوانات " إسمعه يقول في اولها :
خطب طرقت به امر طروق * فظ الحلول علي
غير شفيق
فكأنما ثوب الزمان محيطة * بي راصدات لي بكل طريق
حتى متى تنمى على صروفها * وتغصني فجعاتها بالريق
ذهبت بكل مصاحب ومناسب * وموافق ومرافق وصديق
حتى بديك كنت آلف قربه * حسن إلي من الديوك رشيق
وبعد ان استعرض في ابيات طويلة مختلف الاوصاف لهذا الديك
العزيز ذكر فجيعته بفقده وبكاه بقوله :
ابكي إذا ابصرت ربعك موحشا * بتحنن
وتأسف وشهيق
ويزيدني جزعا لفقدك صادح * في منزل دان إلي لصيق
قرع الفؤاد وقد زقا فكأنه * نادى ببين أو نعي شقيق
فتأسفي ابدا عليك مواصل * بسواد ليل أو بياض شروق
وإذا أفاق ذووا المصائب سلوة * وتصبروا ، امسيت غير مفيق
11 - كتاب ( الاغاني ) : وعرف أبو الفرج
لدى القراء والباحثين بكتابه الاغاني الكبير المشهور ، ويعتبر هذا الكتاب من
أجل الموسوعات الادبية واعظمها غناء وثروة وقيمة هذا الكتاب - فيما أرى - قيمة
ادبية اكثر منها قيمة تاريخية وعلى
الرغم من ان المؤلفين الذين جاءوا بعد ابي الفرج قد عولوا
عليه كثيرا ، واعتبروه مرجعا هاما للتاريخ العربي والحضارة الاسلامية ، فهو -
في الواقع - لا يصح ان يكون اساسا لدراسة التاريخ بصفة خاصة ، لان الاصل في
تأليفه لم يكن تاريخيا
بصورة مطلقة ، بل كان الغرض الاول الذي وضعه أبو الفرج نصب
عينيه - حين وضع هذا الكتاب - هو امتاع الاسماع ومؤانسة القلوب وترويح النفوس
وتحلية الاذواق ليس إلا . فكان إذن من اكبر الاخطار واشنع الاخطاء اعتماد كتاب
الاغاني
في فهم التاريخ الصحيح ، واعتبار رواياته حقائق تاريخية يصح
الركون إليها والبناء عليها . لان ابا الفرج لم يكن يعنيه من رواية الاخبار سوى
طرافتها وغرابتها ، سواء أكانت هذه الاخبار صحيحة أو غير صحيحة . ومع ان ابي
الفرج لم يختلق كل
هذه الاخبار ، إلا ان له - دون ادنى شك - يد في تلوينها
ووضعها في قوالب يغلب عليها اللهو والمجون - على حد قول الدكتور زكي مبارك - .
ثم ان دراسة الجانب الماجن من حياة ابي الفرج ( 1
) تعين الباحث على فهم نفسيته وتعرفه على تذوق ابي الفرج لمتع الحياة بمختلف
الوانها الخليعة اللاهية . وقد لفتت هذه الناحية من كتاب الاغاني في نظر بعض
الباحثين الاقدمين والمحدثين فقد قال ابن الجوزي في كتابه المنتظم : " ومن تأمل
كتاب الاغاني رأى كل قبيح ومنكر " .
واشار الخونساري في روضات الجنات إلى ذلك ايضا
فقال : " إني تصفحت كتاب اغانيه المذكور إجلالا ، فلم أر فيه إلا هزلا أو ضلالا
، أو بقصص اصحاب الملاهي اشتغالا " . اما من المحدثين ، فلعل اوسع من درس كتاب
الاغاني ، ونبه على هذا الموضوع على وجه التخصيص ، هو المرحوم الدكتور زكي
مبارك الذي ذكر في
|
* هامش * |
|
|
( 1 ) - راجع ما يرويه ياقوت الحموي في معجم
الادباء ج 5 من الاقاصيص الماجنة التي وقعت لابي الفرج على
لسانه نفسه . ( * )
|
|
|
كتابه " النثر الفني في القرن الرابع " ان ابا الفرج " حين
يعرض للكتاب والشعراء يهتم بسرد الجوانب الضعيفة من اخلاقهم الشخصية ، ويهمل
الجوانب الجدية إهمالا ظاهرا يدل على انه قليل العناية بتدوين اخبار الجد
والرزانة والتحمل والاعتدال وهذه الناحية من الاصبهاني افسدت كثيرا من آراء
المؤلفين الذين اعتمدوا عليه " .
واكتفي الآن بهذه الاشارة العابرة ، وارجوا ان يتسع الوقت لدراسة كتاب الاغاني
دراسة موضوعية مستفيضة لتقييمه من الوجهة الادبية والتاريخية ، والخروج من
البلبلة الفكرية التي اوقع كتاب الاغاني فيها كثيرا من الباحثين والكتاب في
الماضي والحاضر .
12 - مؤلفاته الاخرى : ولابي الفرج مؤلفات
اخرى كثيرة جدا وردت اسماؤها في الفهرست لابن النديم ومعجم الادباء لياقوت ،
والعبر لابن خلدون ، وتاريخ بغداد للخطيب ، وعيون التواريخ لابن شاكر ، وكشف
الظنون لكاتب جلبي .
كما اشار أبو الفرج نفسه إلى اسماء بعض مؤلفاته في تضاعيف كتابه الاغاني .ويخيل
للباحث - عند استعراض اسماء مؤلفات ابي الفرج - ان موضوعات الكثير منها لا تخرج
في مضامينها عن مضامين كتاب الاغاني ذاته وانه لابد ان يكون أبو الفرج
قد ادخل موضوعات هذه المؤلفات في ضمن كتاب الاغاني ، لاسيما
وقد جاء في اخبار ابي الفرج انه استنفذ تأليفه لكتاب الاغاني من الزمن نحو
خمسين سنة ، أي جل حياة ابي الفرج الثقافية .
ومن اسماء هذه المؤلفات التي اشرنا إليها ، والتي يمكن دمجها بكتاب الاغاني ( 1
) أخبار القيان ( 2 ) الاخبار والنوادر
( 3 ) الاماء الشواعر ( 4 ) ايام العرب ( 5 ) الغلمان المغنون ( 6 ) الحانات (
7 ) جمهرة انساب العرب
( 8 ) الخمارون والخمارات ( 9 ) الديارات ( 10 ) رسالة في الاغاني ( 11 ) النغم
( 12 ) مجموع الاخبار والآثار .
وتجدر الاشارة إلى ان هذه المؤلفات قد ضاعت جميعا ، ولم نعثر
حتى الوقت الحاضر على شئ منها ، سوى كتابي الاغاني ومقاتل الطالبيين .
وكفى بهذين الكتابين مجدا يبقى ذكر ابي الفرج خالدا على كر
الاعوام ومر العصور .
13 - تشيعه : وابو الفرج
كان شيعي الهوى والعقيدة ، على مذهب الزيدية المعروف ، وقد نص على تشيعه اكثر
مترجميه ، ومنهم معاصره القاضي التنوخي ، فقد ذكر في كتابه نشوار المحاضرة انه
من المتشيعين الذين شاهدهم ، وقال ابن شاكر في عيون التواريخ انه كان ظاهر
التشيع ، وكذلك نص على تشيعه الحر العاملي في امل الآمل والخونساري في روضات
الجنات .
اما ابن الاثير في كتابه الكامل
فقال انه كان شيعيا ، ولكنه رأى في تشيعه مدعاة للاستغراب ، فقال : " وهذا من
العجب . " ولعل موضع العجب عند ابن الاثير كون ابي الفرج من صميم الاسرة
الاموية ، فكيف صار إذن على مذهب الشيعة ؟ مع كل ما عرفه التاريخ من الوان
العداء ثم الخصومة السياسية والدينية التي اشتجرت نيرانها طويلا بين الامويين
والعلويين .
وفي الواقع ان الرأي - أي رأي - لا يعرف وطنا ولا جنسية ، كما ان العقيدة لا
دخل لها في نسب المرء ايا كان هذا النسب . فمهما كان العداء التقليدي بين شيعة
الامويين وشيعة العلويين متين الاسباب طويل الآماد ، فهو لا يحول ابدا دون ان
نجد بين الفريقين من يعطف احدهما على الآخر . ولقد رأينا في الامويين اكثر من
واحد لا يرى رأى اهله ولا يعتقد عقيدة قبيله .
14 - مقاتل الطالبيين :
وظاهرة التشيع عند ابي الفرج واضحة الدلالة كل الوضوح في كتابه ( مقاتل
الطالبيين ) الذي نقدمه للقارئ على هذه الصفحات .
ترجم أبو الفرج في هذا الكتاب
جميع الشهداء الطالبيين اي من كان من ذرية عبد المطلب بن عبد مناف ، منذ عصر
النبوة إلى الوقت الذي الف فيه أبو الفرج كتابه في عام 313 هج " سواءا كان
المترجم له قتيل الحرب أو صريع السم في السلم وسواء اكان مهلكه في السجن ، ام
في مهربه اثناء تواريه من السلطان " كما اوضح أبو الفرج هذا المعنى في مقدمة
الكتاب .
وابو الفرج في تصويره لمصارع الطالبيين وعرضه
لتراجمهم وتقديمه لمناقبهم وفضائلهم يبدو شديد العطف عليهم ، لا يرى في مصائبهم
إلا كل فضيلة ومجد ، بل يراهم دائما يسلكون سبيل الحق في نهضاتهم ضد الدولة
الاموية ، مع ان خلفاء هذه الدولة هم آباؤه الصلبيون الذين لا ينكر أبو الفرج
نسبته إليهم ، وان كانت هذه النسبة - كما لاحظت - لم ترد عنده في موضع الفخر
والاء عتزاز .
وكتاب ( مقاتل الطالبيين ) طبع للمرة الاولى على الحجر في مدينة طهران عام 1307
هج ، وهي طبعة مشحونة بالاخطاء . وقد اعادت طبعه المطبعة الحيدرية في النجف
عام 1353 هج فكانت افضل من سابقتها كثيرا .
ثم اعيد طبع الكتاب للمرة الثالثة في القاهرة بعناية الاستاذ السيد احمد صقر
عام 1368 هج 1949 م بعد ان قابله على نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية كانت
في الاصل من ممتلكات الامام يحيى ملك اليمن الاسبق . ومع ان هذه النسخة مكتوبة
بعد الالف الهجرية إلا انها كانت عونا لتقويم بعض التصحيفات والتحريفات التي
وقعت في الطبعتين السابقتين .
ولذلك ارتأى الاخ الفاضل محمد كاظم الكتبي صاحب المطبعة
الحيدرية ومكتبتها إعادة طبع الكتاب للمرة الثانية بالنسبة لمطبعته وللمرة
الرابعة بالنسبة لمجموع طبعات الكتاب .
وقد عهد إلي الاخ الكتبي قراءة مسودات الكتاب والنظر فيه قبل الاء قدام على
نشره بهذه الحلة الجديدة ، وإني لارجو ان يكون الكتاب قد خرج وهو اقرب ما يكون
إلى الصحة والصواب ، كما آمل ان ينتفع به الباحثون ، فهو من اجل كتب التاريخ
والتراجم التي عرفناها في اللغة العربية . النجف 10 / 8 / 1965 كاظم المظفر
|