(
إن مذهباً يثبت نفسه من
كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل
والتحوير أحق أن يتجنب عنه )
- منع تدوين
الحديث - السيد علي الشهرستاني ص 39 :
|
السبب الثامن : بيان ما
توصلنا إليه
أما الآن فلنشرح ما نذهب إليه : نحن نعلم بأن مكانة الخليفة كانت تستدعي
امتلاكه قدرتين :
الأولى : العلم بالأحكام .
الثانية : قدرته السياسية لإدارة الأمور .
وهذا ما كان لرسول الله (
صلى الله عليه وآله وسلم ) كذلك ، حيث كان من وظائفه ( صلى الله عليه وآله وسلم
) تبيين الأحكام ، كما كان له إدارة أمور البلاد ، وبفرق واحد : أن رسول الله
كان مشرعا ، أما الخليفة فيلزم عليه أن يكون محدثا ،
وحيث لم يعرف أحاديث رسول
الله ، فقد واجه المشكلة مع الصحابة ، إذ كانوا يخطئونه المرة تلو الأخرى
( 1 ) بأحاديث الرسول وآيات الذكر الحكيم .
وإن تكرار هذه ا لحالة كانت تؤدي إلى التشكيك في قدراته العلمية ، ومنه التشكيك
في صلاحيته للخلافة ، وفي المقابل تقوية الجناح المقابل له برجوع الناس إليهم .
|
* هامش * |
|
|
(1)
أنظر : منع تدوين الحديث
: 114 - 125 . ( * )
|
|
فكان عليه أن يحدد التشريع بنفسه ، فقام أولا بسد باب التحديث عن
رسول الله ، وجمع الصحابة عنده ( 1 ) وأمرهم بأن يأتوه بمدوناتهم
( 2 ) فأحرقها بالنار ، ومعه شرع الاجتهاد لنفسه
وللصحابة ، ثم جاء ليحدد التشريع بنفسه والخلفاء من بعده
فقال للصحابة : أنا أعلم منكم آخذ منكم وأرد عليكم ، وجاء عنه
أنه خطب واعترض على الصحابة لاختلافهم وقوله لهم : من أي فتياكم يصدر المسلمون
. نعم إن الخليفة حدد الفتيا لنفسه ثم لكل أمير من بعده .
فعن أبي موسى الأشعري أنه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك ،
فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك حتى يفتيه ، فسألته ، فقال
عمر : قد علمت أن النبي قد فعله وأصحابه ولكني كرهت أن يظلوا معرسين بهن في
الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم ( 3 ) .
وقد أنكر عمر بن الخطاب على البعض لإفتائه من عند نفسه بقوله : كيف تفتي الناس
ولست أميرا ؟ ولي حارها من ولي قارها ( 4 ) .
|
* هامش * |
|
|
(1)
أنظر : تذكرة الحفاظ
1 / 7 ، المستدرك على الصحيحين 1 /
110 ، مختصر تاريخ دمشق 17 / 101 ،
حجية السنة : 395 .
(2)
الطبقات الكبرى لابن سعد 1 / 140 ،
حجية السنة : 395 .
(3) صحيح
مسلم 2 / 896 / 157 ، مسند أحمد 1 /
50 ، سنن النسائي 5 / 153 ،
السنن الكبرى 5 / 20 ،
تيسير الوصول 1 / 340 ،
سنن ابن ماجة 3 / 992 .
(4) سنن
الدارمي 1 / 61 ، الطبقات الكبرى لابن
سعد 6 / 179 و 258 ، المصنف للصنعاني 8 / 301
و 11 / 328 ،
جامع بيان العلم 2 / 175 و 203 و 194 و 174 ،
كنز العمال 1 / 185 و 189 . ( * )
|
إذن ، الحديث كان هو السبب الأول للوقوف أمام الخليفة ،
والمحدثون كانوا هم ممن يزيدون في الطين بلة والاختلاف شدة - حسب نظر الخليفة -
ولأجل هذا ترى الخليفة يصرح بجرمهم - حين أراد حبسهم عنده في المدينة - بأنهم
أكثروا الحديث عن
رسول الله أو أفشوا الحديث عن رسول الله ، فإكثار الحديث
وإفشائه يساوي التوعية عند الناس ، والخليفة لا يريد أن يعرف الناس أحاديث رسول
الله كي يقفوا بوجهه ويخطؤه فيما يقوله ، لأن ذلك سيؤثر على قوام خلافته ، أما
تناقل الأحاديث التي يعرفها الخليفة فلا خوف في تناقلها .
بلى ، إن الناس كانوا
يريدون الوقوف على سنة رسول الله لا سنة الشيخين ، والخليفة لا يعرفها جميعا ،
فبدا يواجه مشكلة جديدة ينبغي أن يضع لها الحل ، لأن المحدثين من الصحابة
وبنقلهم الأحاديث عن رسول الله سيوقفون الناس على وهن رأي الخليفة وبعده عن
الشريعة ، وهذا سيسبب التشكيك في خلافته .
ومن أجل هذا رأى أن لا محيص من أن
يمنع من التحديث أولا ثم يشرع الاجتهاد والرأي ، كي يكون أصلا ثالثا في التشريع
الإسلامي ( 1 ) ،
|
* هامش * |
|
|
(1)
جاء في كنز العمال
2 / 333 ح 4167 : عن إبراهيم التيمي أنه قال : خلا عمر بن الخطاب ذات يوم
فجعل يحدث نفسه ، فأرسل إلى ابن عباس فقال : كيف تختلف هذه الأمة وكتابها
واحد ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إنا
أنزل علينا القرآن
فقرأناه وعلمنا فيما نزل ، وأنه يكون
بعدنا أقوام يقرأون القرآن لا يعرفون فيم نزل ، فيكون لكل قوم رأي ، فإذا
كان لكل قوم رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا ، فزجره عمر ( انتهره )
وانصرف ابن عباس ، ثم دعاه بعد ، = ( * )
|
|
* هامش * |
|
|
= فعرف الذي قال ثم قال : أيها أعد .
وحكى القاضي نعمان المغربي في
شرح الأخبار ( 1 / 90 ) : أن سائلا سأل الصادق فقال : يا ابن رسول
الله من أين اختلفت هذه الأمة فيما اختلفت فيه من القضايا والأحكام ( من
الحلال والحرام ) ودينهم واحد ونبيهم واحد ؟ فقال ( عليه السلام ) : هل
علمت أنهم اختلفوا في ذلك
أيام حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم
) ؟ فقال : لا ، وكيف يختلفون وهم يردون إليه ما جهلوه واختلفوا منه ؟ فقال
: وكذلك ، لو أقاموا فيه بعده من أمرهم بالأخذ عنه لم يختلفوا ، ولكنهم
أقاموا فيه من لم يعرف كل ما ورد عليه فردوه إلى الصحابة يسألونهم عنه
فاختلفوا
في الجواب فكان سبب الاختلاف ، ولو كان الجواب
عن واحد والقصد في السؤال عن واحد كما كان ذلك لرسول الله لم يكن الاختلاف
.
وجاء في تفسير العياشي
2 / 331 : . . . فظن هؤلاء الذين يدعون أنهم فقهاء علماء قد أثبتوا جميع
الفقه والدين مما تحتاج إليه الأمة ! ! وليس كل علم رسول الله علموه ولا
صار إليهم من رسول الله ولا عرفوه ، وذلك أن الشئ من الحلال والحرام
والأحكام يرد عليهم فيسألون
عنه ولا يكون عندهم فيه أثر من رسول الله ( صلى
الله عليه وآله وسلم ) ويستحيون أن ينسبهم الناس إلى الجهل ويكرهون أن
يسألوا فلا يجيبون فيطلب العلم من معدنه ، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في
دين الله وتركوا الآثار ودانوا بالبدع وقد قال رسول الله : كل بدعة ضلالة
فلو أنهم إذا سئلوا عن الشئ من دين الله فلم
يكن عندهم منه أثر عن رسول الله ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر
منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمد . . . .
وجاء عن رسول الله قوله : إن الله لا يقبض
العلم انتزاعا ينزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق
عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا .
( انظر : جامع المسانيد
والسنن لابن كثير 26 / 309 و 231 ) .
وجاء عن الإمام علي مثل هذا ( راجع : نهج البلاغة
1 / 95 الخطبة 49 ) . ( * )
|
رأيه جمع من الصحابة ، ولم يرتضه آخرون ، فصار هناك اتجاهان :
أحدهما : يستوحي شريعته من النصوص ( القرآن والسنة ) .
والآخر : يعطي لاجتهاد الشيخين الشرعية باعتقاد أنهما أعلم من
غيرهما ! وهذا الانقسام أخذ يزداد شيئا فشيئا بمرور الأيام ، في حين لم نر له
هذه الشدة في أوائل عهد الشيخين .
فلو صح قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " اقتدوا بالذين من بعدي أبا بكر
وعمر " ، فلم نراهم يعترضون على الخليفة ولا يرتضون الأخذ منه ؟ ! وهذا يوضح
أنهما لم يكونا يعتقدان بهذا الأصل ، بل يعرفان لزوم رجوعهما إلى القرآن والسنة
لا غير ، لأنهما كثيرا ما سألا عن وجود آية أو حديث نبوي في الوقائع التي سئلوا
عنها .
بلي ، إن الخليفة كان يسأل الصحابة عما لا يعرفه ويتراجع حينما كان يذكر
بالصحيح عن رسول ، لكنه بمرور الأيام صار داعيا إلى اتباع رأيه وسيرته ، فيجيب
عن المسائل بمفرده دون أن يستشير أحدا من الصحابة ، ويختلف النقل عنه في
الواقعة الواحدة ، فتراه يقول : تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا
( 1 ) .
وبذلك صار عند المسلمين نهجين : 1 - فقه النصوص .
|
* هامش * |
|
|
(1)
السنن الكبرى 6 / 255 . ( * ) |
|
2 - فقه الرجال . أي : أنهم بعد أن دعوا إلى الأخذ بسيرة الشيخين جاء
عثمان وأضاف سيرته إليهما ، فرووا : حديث التفاضيل ( أبو بكر ، عمر ، عثمان )
وليس في ذلك اسم علي بن أبي طالب ،
ثم أدرجوا اسمه وعدوه من الخلفاء الراشدين ،
ورووا : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ( 1 )
،
وقد رووا حديث
العشرة المبشرة ، ثم أصحابي كالنجوم ، أي : أن فقه الرجال بدأ باثنين ثم ثلاثة
ثم أربعة ثم عشرة ثم إلى جميع الصحابة ، أي أنهم شرعوا التعددية في حين نرى
الله سبحانه يؤكد على الوحدوية بقوله : (
إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل
) ( 2 ) ،
وإخباره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بافتراق أمته إلى
نيف وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقي في النار .
فشرعوا الاختلاف في الرأي
ودعوا إلى حجيته ، في حين أن الإمام علي كان لا يرتضي ذلك ويذهب إلى وجود جميع
الأحكام في الكتاب العزيز والسنة النبوية ، فلا داعي للأخذ بالرأي منها ، وصرح
بعدم جواز الأخذ بقول الرجال والرأي ، بقوله : " إعرف الحق تعرف أهله "
( 3 ) .
|
* هامش * |
|
|
(1)
مسند أحمد 4 /
126 .
(2)
الأنعام : 153 .
(3) أمالي
المفيد : 5 ح 3 ، روضة الواعظين : 39 ،
مجمع البيان 1 / 211 . ( * )
|
|